قالت الحكمة quot; الجاهل عدو نفسه quot; وتعلم العامة الكثير من هذه الحكمة الذهبية لكنها للأسف فاتت الكثيرين والمثل على هؤلاء الكثيرين هو المنحرف quot; نيكيتا سيرغيفتش خروشتشوف quot;. كان هذا المنحرف شيوعياً متعصباً للشيوعية لكنه في الحقيقة والواقع هو من تسبب في انهيار الإتحاد السوفياتي. وأذكر جيداً أنني في العام 1963 وفي نقاش مع قيادة الحزب الشيوعي أكدت لهم بالاعتماد على تقرير خروشتشيف للمؤتمر العام الثاني والعشرون للحزب الشيوعي السوفياتي أن إبناً لخروشتشيف بالمعمودية سيصل إلى قيادة الحزب ولن يخجل في المناداة بكل المفاهيم المنحرفة التي يستبطنها خطاب خروتشوف وفي العام 1990 سينهار الإتحاد السوفياتي. وهذا ما كان إذ وصل غورباتشوف إلى قيادة الحزب وقد لقب من قبل لجنة مختصة quot; إبناً لخروشتشوف بالمعمودية quot; ونادى بكل المفاهيم المنحرفة لعرّابه وفي العام 1990 انهار الإتحاد السوفياتي. الشيوعي المتعصب خروشتشوف هو من حذّر الحزب الشيوعي العراقي من استلام السلطة وإزاحة العسكريين من الحكم وعلى رأسهم الجنرال عبد الكريم قاسم الذي حاول أن يلعب لعبة التوازن فأعاد الضباط القوميين إلى مراكز القيادة وما لبث هؤلاء أن تآمروا عليه وقتلوه وقتلوا معه آلاف الشيوعيين. لم يخجل خروشتشوف من إعلان تدخله في شؤون الحزب الشيوعي العراقي على الراديو في خطاب موجه إلى جمال عبد الناصر الذي شنّ حملة صليبية على الشيوعية والشيوعيين في ربيع 1959.

ثمة قول مأثور للينين يقول ما معناه.. أن الحزب الشيوعي يخون الثورة مرة واحدة، أي أن الحزب الشيوعي الذي يخون الثورة لا يعود شيوعياً. الحزب الشيوعي العراقي خان الثورة في مطالع الستينيات من القرن الماضي، تلك الخيانة التي باعتقادي غيرت تاريخ العالم حتى انتهى إلى دمار العراق بل ودمار الإتحاد السوفياتي نفسه. منذ إنقلاب شباط 1963 الدموي الذي قامت به عصابة تافهة من عساكر القوميين بالتعاون المفضوح مع المخابرات الأنجلو أميركية آليت على نفسي ألا أحترم الشيوعيين العراقيين وألا أصغي إلى أحد منهم طالما أنهم من أيتام خروشتشوف وأعداء أنفسهم.

لكنني اليوم وبالرغم من كل ذلك أراني أصغي للسيدة الفاضلة سعاد خيري، الشيوعية العراقية، وأرد على ما كتبته في الموقع الألكتروني المعروف quot; الحوار المتمدن quot; قبل يومين وذلك لأنها الوحيدة من أيتام خروشتشوف الذي تجرأ على معارضة أطروحتي في المرحلة التاريخية القائمة اليوم. أقدر عالياً للأخت سعاد إيمانها بالشيوعية لكن الإيمان لا يكفي فالشيوعية علم نسميه علوم الماركسية. والجهل في علوم الماركسية يرتد عداءً للشيوعية ولنا بعرّابهم خروشتشوف خير مثال على ذلك.

السؤال الفيصل الذي لا يحبه أيتام خروشتشوف ولم يسبق لأحد منهم أن أجاب عليه هو.. علمنا ماركس أن الصراع الطبقي هو محرك التاريخ، فهل ينطبق هذا على انهيار الإتحاد السوفياتي؟ ولئن كان الجواب بالإيجاب، فما هما الطبقتان المتصارعتان حتى انتهى الأمر إلى انهيار الإتحاد السوفياتي؟ الإجابة السهلة والمباشرة على هذا السؤال كفيل بإزالة كل خلاف بيني وبين الأخت المؤمنة بالشيوعية السيدة سعاد خيري. ولعلي أضيف هنا لفائدة الأخت سعاد أن عرابهم خروشتشوف كان قد سخر من الصراع الطبقي ومن دكتاتورية البروليتاريا في المؤتمر الإستثنائي للحزب الشيوعي في العام 1959 وألغاهما !!! هل يذكر أحد من الشيوعيين العراقيين ذلك؟ هل كان خروشتشوف على حق بإلغاء الصراع الطبقي وقد شهدنا انهيار الإتحاد السوفياتي بسبب الصراع الطبقي؟ ولي أن أتساءل هنا، لماذا تتجاهل السيدة سعاد خطأ خروتشوف وتزعم بالمقابل أنني أضلل الطبقة العاملة..quot; خصوصاً بإلغاء الصراع الطبقي quot; بينما كنت الأول ربما بالهجوم على خروشتشوف في العام 59 لأنه نادى بإلغاء مبدأ الصراع الطبقي الذي هو حقيقة تاريخية غير قابلة للإلغاء.

العلوم الماركسية ليست سهلة وثمة قصور عام في تحصيل هذه العلوم وخاصة في العالم العربي. ومثالنا على ذلك هو السيدة سعاد التي لا نعرف مقدار تجربتها في العمل الشيوعي إذ تقول.. quot; الصراع الطبقي بين الرأسمالية والطبقة العاملة والذي تطور إلى صراع بين عموم البشرية والرأسمالية quot;. العمل الشيوعي هو تطوير الصراع الطبقي لا أكثر ولا أقل. والسيدة الشيوعية سعاد لا تدرك مع ذلك الصراع الطبقي بالجوهر. الصراع الطبقي يا أخت سعاد هو مباراة بين وسائل إنتاج متباينة، أي أن كل طبقة تنتج بوسيلتها الخاصة وتدفع بإنتاجها إلى السوق التي هي ساحة الصراع. كيف لهذا الصراع أن يتطور كما تزعمين ليكون بين عموم البشرية والرأسمالية ! هذا ما لا يمكن تفسره أللهم إلا إذا اعتبرنا أن الصراع الطبقي هو هوشة أو فزعة يتقاتل الناس فيها لكل الأسباب ما عدا أسباب الإنتاج. هل تحول عموم البشرية إلى بروليتاريا فيقاتل الرأسماليين؟! ما نراه بالعين المجردة هو العكس تماماً فقد إنكمشت طبقة البروليتاريا في كافة الدول الرأسمالية سابقاً كالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا. ما نحن نلح بالإشارة إليه بقوة هو أن الخدمات أصبحت غولاً يفترس الطبقة العاملة. كنت أصارع هنري فورد لأنه أصبح مليونيراً بسبب صناعة السيارات التي يشتغل فيها مئات ألوف العمال، لكنني اليوم لا أفهم لماذا لا نصارع بل غيتس الذي أصبح مليارديراً بسبب الشغل الورقي (Soft Ware) الذي يوظف آلاف المهندسين وليس العمال. أنا لا أفهم اليوم كيف لشخص في بلادنا يصل أجره الشهري إلى مائة وخمسين ألفاً من الدولارات !! ألا يشرب هذا من دم العمال؟؟ منتجو الخدمات وهم الطبقة الوسطى يستبدلون خدماتهم ليس في السوق بل خارجه بأضعاف أضعاف قيمتها !! هذا يتم على حساب العمال والفلاحين. آن للشيوعية سعاد ولسائر الشيوعيين من أيتام خروشتشوف أن يفطنوا إلى ذلك وأن يحاربوا في الجهة الصحيحة دفاعاً عن البروليتاريا ووسيلة إنتاجها.

ما أفسد فلول أحزاب الأممية الثالثة التي ما زالت قائمة باسم الحزب الشيوعي هو تغييبها لماركس تغييباً نهائياً والانصراف بدلاً عنه إلى إمتهان السياسة !! خطاب السيدة التي تناشد الشيوعيين تعريتي هو خطاب سياسي لا يستند إلى أي تحليل لواقع علاقات الإنتاج السائدة اليوم في العالم. السيدة ورفاقها يتعشون سياسة ويفطرون سياسة، لكن الشيوعيين الحقيقيين ليسوا سياسيين إلا عندما يدخلون في صراع طبقي يضطرون آنذاك، وآنذاك فقط، أن يتسلحوا بالسياسة. لأن السيدة سعاد الخيري تحولت إلى امتهان السياسة دون أن تعي خطورة ذلك فقد جاء خطابها على هذا النحو، خطاباً دونكشوتياً، تلوح بسيفها الخشبي في وجه طواحين الهواء. عباراتها تتنفس خطابات خمسينيات القرن الماضي حين كان للثورة الإشتراكية معسكر قادر على كتابة الأمر اليومي في أجندة العالم.

أرجو السيدة أن تتساءل معي.. لئن كان النظام الرأسمالي يعاني من أزمة عميقة اليوم دون أن ينجح في تجاوزها من خلال الهيمنة على العالم، كما ادّعت، فأي مصير ينتظر هذا العالم؟! هل يصير إلى الإشتراكية؟! هل الإشتراكية مطروحة اليوم على أجندة العالم؟! أين هي القوى الإجتماعية القادرة على جر العالم إلى الخيار الإشتراكي؟؟ هل هي quot; الحزب الشيوعي الصيني quot; الذي سلخت سياطه ظهر الطبقة البروليتارية كما طبقة الفلاحين التي تئن تحت وطأة إملاق لم تعرفه حتى في عصر الإقطاع.

سيدتي الفاضلة المناضلة.. القاعدة الذهبية التي تعلمتها من ماركس هي ألا أكون عقائدياً مثلك. تبشرين بالاشتراكية كما لو أن الإشتراكية وراء العتبة كما كانت في خمسينيات القرن الماضي ودون أن تتفحصي وسائل الإنتاج المختلفة السائدة اليوم في البلدان الرأسمالية سابقاً. وسائلها اليوم فردية (Individual Production) كما هو حال إنتاج الخدمات بغض النظر عن حجمها وليس وسائل رأسمالية بكافة المميزات التي ميزها كارل ماركس. الكلام هنا ليس في السياسة بل بالأرقام التي تقول أن إنتاج الخدمات في الولايات المتحدة الأميركية يساوي 80% من كامل مجمل الإنتاج القومي وأن الإنتاج الرأسمالي يساوي فقط 17.5%. إزاء هذه الحقائق التي لا جدال فيها يتوجب أن يتساءل العقلاء عن أية دواع ٍتدعو منتجي الخدمات أن يتنازلوا عن السلطة لصالح الرأسماليين؟! فقط لمجرد الدفاع عن عقيدتك تعتبرين منتجي الخدمات رأسماليين أيضاً بينما هم ليسوا كذلك ولا يمكن أن يكونوا كذلك. إنتاج الخدمة إنتاج فردي بغض النظر عن أي اعتبار آخر. وأنصح السيدة بأن تعود إلى كارل ماركس لتتأكد مما أقول. وهل للسيدة أن تعلل إجتماع رؤساء الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، كلينتون وبلير وجوسبان وشرويدر، في لندن في العام 2000 ولدى ارفضاض الإجتماع بعد يومين من المباحثات الجادة خرج كلينتون ليقول.. كنا نبحث في النظام العالمي الجديد، نظام الطريق الثالث (Third Road) الذي لا هو اشتراكي ولا رأسمالي؟

تقولين أنني لم أذكر أسباب تحول الدول الصناعية (سابقاً) إلى إنتاج الخدمات لكن هذا غير صحيح أبداً. عودي إلى إعلان رامبوييه الصادر عن الدول الخمس الأغنى (G5) الصادر في 17 نوفمبر 1975 الذي شكّل نقطة انعطاف كبرى في تاريخ النظام الرأسمالي. كان ذلك الإعلان هو القبر الحقيقي الذي وارى جثمان النظام الرأسمالي. ومع ذلك تذكرين أنني لم أواكب تطور الأزمة في النظام الرأسمالي. أكدت أن الرأسمالية ماتت ودفنت في نهاية سبعينيات القرن الماضي لكنك بالمقابل تدعين بأن النظام الرأسمالي لم يمت وما زال يحيا مأزوماً !!

تقولين أنني أنتصر للرأسمالية وهذا صحيح لكنني أنتصر لها في وجه (نظام) الطبقة الوسطى. أنتصر للرأسمالية لأنها الأم التي تحمل بالشيوعية أليس كذلك؟ إنها أمنا التي علينا أن نحافظ على سلامتها طالما أنها لم تلد الشيوعية بعد، أليس كذلك؟ الرأسمالية يا سيدتي الفاضلة هي التي حولت سواد الناس إلى بروليتاريا، رافعة الشيوعية الوحيدة، وما كانوا بغيرها أن يتحولوا، أليس كذلك؟

أما اتهامي بأدلجة العولمة فليس بذي معنى على الإطلاق. كنت قد كتبت في أكثر من موضوع أن العولمة إنما هي مجرد ظاهرة لاحتضار النظام الرأسمالي مخالفاً بذلك الكثيرين من أدعياء الماركسية وغير أدعياء الماركسية الذين يقولون بأن العولمة إنما هي الرأسمالية بعد الإمبريالية (Post-Imperialism) وهو قول فج لا تستسيغه الذائقة العاقلة.

وأخيراً أتقدم برجاء حار للسيدة المناضلة سعاد خيري بأن تجدّ في تعريتي حتى النهاية كيما أظهر على حقيقتي، ماركس بشحمه ولحمه ولو برداء جديد.

فؤاد النمري
www.geocities.com/fuadnimri01