لم يتوقف المفكر علي حرب في مجمل كتاباته عن الإشارة دائماً إلى مواقع الخلل في واقعيات حياتنا المعاصرة ، طارحاً التساؤلات تلو التساؤلات ، ومجترحاً في الوقت نفسه سبل الخروج من قوقعة الأطر الفكرية والمعرفية والمفاهيمية المستهلكة والجامدة والضيقة والخاوية..

وفي كتابه الأخير ( أزمنة الحداثة الفائقة ) هناك ثمة رؤى تنفذ إلى العمق ، باحثةً عن المصير الذي يجب على شعوب العالم العربي أن تحدده ، وسط عالم قد تجاوز فعلاً الحداثة التقليدية ، للخروج من نفق التخلف ومن ثقافة الارتداد التراجعي لفكر الاستلاب الماضوي ومن تكرار المشاريع الفاشلة المدمرة ومن التشبث بأوهام المستقبل الخادعة ، التي لم تزل المنطقة العربية سائرةً في مساربها التائهة المعتمة ، وفي ظل كل هذا التردي يتساءل علي حرب : كيف نفكر ونعمل ، عرباً وبشراً في أزمنة الحداثة الجديدة وتحولاتها المتسارعة ؟ وكيف نتوجه وبأي شكل نتغير..؟

يرى علي حرب إن واقع التخلف والتردي والهزيمة ، برمته يتوقف أولاً على ما يقرره العرب تحديداً لأنفسهم ولدولهم ولشعوبهم للخلاص من كل تلك الواقعيات المدمرة والقاتلة ، وثانياً التركيز على خلق الوقائع الميدانية والثقافية الخلاقة المتجددة لمعرفة كيفية مواكبة العالم الآخذ في التسابق مع موجات الحداثة الفائقة ، حيث يقول في مقطع مهم من كتابه:
عربياً يبدو المشهد هو الأكثر تأزماً وتردياً ، مما يضع العرب في مهب المتغيرات ، فإما أن يواجهوا الأحداث باستخدام العدة القديمة المستهلكة ، لكي يهدروا الفرص والطاقات والموارد ، ويزدادوا تخلفاً وهامشية وتبعية للغير ، وإما أن يحسنوا التغير بطرح أسئلة العصر وإتقان لغة الخلق والتحول والتداول ، لكي يعملوا على تدارك الكوارث والمساهمة في صناعة الحضارة وقيادة المصائر ، فالعالم الآخذ في التعولم يزداد تشابكاً وتوحداً بقدر ما يتخطى الحداثة التقليدية إلى موجات جديدة من الحداثة الفائقة ، ومَن ينجح في معالجة مشكلاته وإصلاح أحواله يسهم في إصلاح الشأن البشري المشترك ، بقدر ما يشارك في إدارة العمل الكوكبي بصورة بناءة وراهنة ، انتهى..

ويتوجه المفكر علي حرب إلى المشكلة الأساسية في العالم العربي التي يراها تتلخص في انعدام القنوات الثقافية الناهضة بالمجتمع نحو تلمس واقع التخلف ، ومواجهة الذات الغارقة في اجترارها المتكرر للأدوات الثقافية المستهلكة التي فقدت صلاحيتها في واقع اليوم حيث يقول :

ولا شك أن الثقافة ، بثوابتها ومحرماتها ونماذجها ومنتجاتها ، هي مصدر أساسي من مصادر الخلل والعطب ، فالعلة لا تكمن دوماً في القرار السياسي أو في المشروع الاقتصادي ، وإنما لها جذورها في نظام الفكر ومصادرات العقل أو في قوالب المعرفة ومنظومات القيم ، فضلاً عن طرائق التفكير وقواعد التعامل. بهذا المعنى لسنا ضحية أقدارنا بقدر ما نحن ضحية أفكارنا ، ثمة شواهد وناس يشتغلون على أقدارهم وظروفهم للخروج من قصورهم واجتراح امكاناتهم ، كما تشهد النماذج الناجحة في اليابان وماليزيا ودول شرقي آسيا ، وازدهار الأصوليات اليوم ( الأصوليات الدينية والقومية ) ، أياً كانت الظروف التي أسهمت في انتاجها ، دليل على أن العلة ليست دوماً في الجيوب بل في العقول ، وعلى أن الخلل هو ثقافي أكثر مما هو اجتماعي ، انتهى..

ويشير علي حرب إلى نقطة مهمة تتمثل في إننا لم ننجح إلى الآن في تغيير الواقع المتخلف الذي نرتع فيه ونزداد به تخلفاً ، بسبب نضالاتنا الفاشلة في قضايا خاسرة ، ودفاعنا عن الهوية والثوابت بعقلية مناضلة ، وكأن كل مَن في الكون يتربص بنا الدوائر ويتقصد هزيمتنا وتخريب هويتنا والنيل من ثوابتنا ، ويرى أن الفرق شاسع بيننا وبين الغربيين في تعاملهم مع الأفكار والثوابت ، حيث يقول :

ولعل هذا هو الفرق الكبير بين العرب والغربيين ، فبعد أن اتخمنا نضالات فاشلة وقضايا خاسرة ، ما زلنا نتعامل بعقلية مناضلة ومدافعة عن الهوية ، والثوابت أو عن الحقيقة والعقلانية والحرية ، في حين أن الغربيين يخضعون أفكارهم وثوابتهم ، بالدرس والتحليل لخلق لغات مفهومية ، وأطر نظرية أو مباديء استراتيجية ، أو يجددون معها الوجهة والعدة أو المهمة ، والطريقة ، بقدر ما يتغيرون ويسهمون في تغيير العالم ، وهكذا فالذي لا يقدر أو لا يحسن الخلق ، خلق الوقائع التي يتحول بها عن ما هو عليه لن ينجح في تغيير الواقع ، بل سوف يغيره الآخرون بقدر ما يتم التغير على حسابه وضد مصلحته ، انتهى..

ويرى على حرب : أن المفكرين والأدباء والكتاب والفنانين المبدعين في مجالات المعرفة والثقافة ليسوا هم الفئة الغالبة في عالمنا ، ولذلك يجدهم قليلي الفاعلية والجدوى ، بل السيطرة في عالمنا أضحت للوعاظ والمرشدين أو للدعاة والمناضلين أو لحراس الهوية وشرطة العقائد ، وسواهم من الذين يمارسون التعمية الأيديولوجية والشعوذة الثقافية أو التشبيح القومي والتهويل الديني..

وفي ظل هذه السيطرة التي أغلقت على العقول والأفكار والثقافات والمعرفيات آفاقها الرحبة بأقفال الماضوية المتشنجة والأدلجة المميتة والتعصب الأعمى والنرجسيات الواهمة والمخاتلة ، وحولت التراث والمنقولات والأحكام والمعتقدات والمفاهيم إلى أصنام للعبادة والتقديس ، فكانت النتيجة كما يقول علي حرب :

تلك هي ثمرة التقديس للأفكار ، أكانت حديثة أم قديمة : أن تتحول إلى أوثان لكي تطمس الحقائق وتستبد بأصحابها ، بقدر ما تشل طاقة العقل على الفهم والتشخيص أو على التقدير والتدبير ، فأصل الاستبداد أن تستبد بالمرء هوية أو عقيدة أو مقولة أو أن يستعمره أسم أو أصل أو نموذج ، ولو تعلق الأمر بالحرية والتقدم والعقل..


محمود كرم
كاتب كويتي
[email protected]