لا يمكن الحديث عن أي تطور أو تغييرات في النظام الرأسمالي دون التعرف بشكل دقيق وأمين على جوهر ومكونات النظام الرأسمالي، فبدون ذلك يبقى الحديث ليس أكثر من ثرثرة لا معنى لها. لقد سمي هذا النظام بالنظام الرأسمالي لأن نموذج الإنتاج الذي يقوم عليه هو نموذج الإنتاج الرأسمالي. وإذا قبلنا تعريف هذه الوسيلة من وسائل الإنتاج بالوسيلة الرأسمالية فإنما نقبل ذلك لأن رأس المال هو أهم عنصر بين العناصر المكونة لوسيلة الإنتاج الرأسمالية، لكنها ليست العنصر الوحيد بكل تأكيد. فقد كان هناك في عصور الرق والإقطاع من يملك أموالا ضخمة غير أن الإنسان لم يعرف خلال تلك العصور وسيلة الإنتاج الرأسمالية. فما هي مكونات نظام الإنتاج الرأسمالي:
1. رأس المال: يخطىء الكثيرون في الاعتقاد بأن (رأس المال) هو الأموال الطائلة لدى مالـك بعينه. ويقودهم هذا الخطأ إلى أخـطاء كثيرة سواء في علم السياسة أم في علم الاقتصاد. فرأس المال هو (Capital) والمشتقة أصلا من الـكلمة اللاتينية ( Caput )التي تعني الرأس. فإذاً هناك المال الرأس وهناك بالتناظر المال الطرف. المال الرأس هو المال المنتج أو المال الفاعل في خلق أموال جديدة، أي خلقها من العدم. وأما المال الطرف فهو المال الذي لا ينتج، لعله يربح لكنه لا يخلق أموالا أو قيما جديدة من اللاشيء. لكي يتحول المال من مال طرف إلى مال رأس فلا بد من تواجد العناصر الأخرى التالية:
2. أدوات الإنتاج: يتحول جزء هام من هذا المال إلى آلات وأجهزة ومكائن تعمل بالتوافق مع نفسها ومع صاحب المال والأهم من هذا وذاك مع العمال الذين يشغلونها، تعمل في خلق قيم جديدة لم تكن موجودة من قبل.
3. العمال: هدف الرأسمالي الأول والأخير من تفعيل ماله والمخاطرة به هو تجميع قوة العمل المتجددة في العمال وتحويلها إلى سلع قادرة على الوصول إلى السوق وعرضها فيه كقيمة تبادلية. من هنا تقتضي هذه العملية جلب أعداد غفيرة من العمال إلى العمل بواسطة أدوات الإنتاج كيما تتحـول قوة عملهم إلى سـلع. الإنتاج بالجملـة ( Mass Production ) هـو ما يوفـر أرباحا تستحقها المخاطرة وهـذا ينجم عن تشغيل أعداد غفيرة من العمال المتدربين والذين يسمون في علم السياسة البروليتاريا.
4. المواد الخام: عمل العمال الذي منه، ومنه فقط، يتحصل فائض القيمة (الربح) هو في نهاية الأمر قيمة مضافة عليها أن تضاف إلى قيمة أخرى وهي المواد الخام التي تتشكل منها مادة السلعة.
5.المكان: كيما يكون من الممكن تفعيل هذه العناصر الأربعة بعضها مع بعض لا بد إذا من توفير المكان لها لتتواجد فيه بذات الوقت.
خمسة مكونات أساسية لأسلوب الإنتاج الرأسمالي. غياب واحد منها يستحضر بالضرورة الشبهة في طبيعة نظام الإنتاج. أما غياب المكون الأول أي رأس المال فذلك ينفي حتما الطبيعة الرأسمالية للإنتاج إن وجد. وغياب االمكون الثالث وهو العمال ينفي أيضا الطبيعة الرأسمالية حيث أن العمال هم وحدهـم مصدر الربح أو مصدر القيمة المستحدثة أو المخلوقة.
لنظام الإنتاج الرأسمالي خصائص وتداعيات كثيرة منها
( 1 ) بلورة قانون القيمة الرأسمالي وتفعيله بأقصى قدراته
( 2 ) بلورة السوق كمعرض للسلع الأصنام
( 3 ) البطالة، استحداث سوق للبشر إذ من القواعد العامة للنظام الرأسمالي الاحتفاظ ما بين 3 ـ 5% من قوى العمل عاطلة لا تعمل وذلك من أجل تمكين الرأسماليين التحكم دائماً بمستوى الأجور.
( 4 ) الفرز الطبقي الذي يترافق بحكم الطبيعة بالتضامن الطبقي.
( 5 ) تطور في التقنية وتحسين أدوات الإنتاج
( 6 ) مركزة الإنتاج حيث يأكل الرأسمالي الكبير الصغير من خلال المنافسة في السوق.
( 7 ) التوسع أو التمدد (Expansion ) فاستمرار تراكم رأس المال يتحول آليا إلى تمدد أو توسع في التصنيع
والإنتاج ولا يتوقف هذا التمدد والنمو إلاّ بوفاة النظام الرأسمالي.
( 8 ) الامبريالية توالي استخراج فائض القيمة من قيمة العمل يتوجب تصريف هذا الفائض خارج الحدود ولا يتأتى
ذلك إلاّ من خلال احتلال بلدان أخرى وإلحاقها (Imperialism).
( 9 ) استحداث وسائل جديدة للإنتاج في المستعمرات والبلدان التابعة من أجل إكمال دورة إنتاج المركز من مثل
صناعات استخراج المواد الخام.
(10 ) نضال تحرري وتضامن طبقي في البلدان التابعة في حركة معاكسة للاستعمار. لكن أهم ما تعكسه وسائل
الإنتاج الرأسمالية على التاريخ ويحدث تغييرا في مجراه هو..
( 11 ) إلغاء تقسيم العمل فيصبح العمل عملا جمعيا أو تعاونيا ( Socialised Labour )
( 12) القضاء على أساليب الإنتاج الفردي (Individual Production) وتحويلها من إنتاج فـردي إلىإنـتاج
جـمعي ( Socialised Production ).
( 13) الكساد أو الأزمة الدورية. البلدان التابعة والمستعمرة تتوقف بعد كل حين عن استيعاب فائض الفيمة المتحقق
دون انقطاع في المركز وهو ما ينعكس بفائض من الإنتاج في المركز ذاته ويسبب كساداً يتهدد عملية الإنتاج
والنظام الرأسمالي بالانهيار ؛ ويجري حل الأزمة بالعمليتين التاليتين فقط:
( 14) الإنتاج الواسع والكثيف للأسلحة، ويجري تعويض قيمتها من خلال الاعـتداء على الشعوب وفتح
مستعمرات جديدة ونهب ثرواتها.
(15 ) إشعال حروب عامة أو إقليمية بالحد الأدنى.
( 16) التنافس الشديد بين المراكز الرأسمالية ( Metropoles ) وقيام حروب كبرى دورية بين هذه المراكز من
مثل الحربين العالميتين الأولى والثانية.
لقد وجد ماركس أن أعنف صراع طبقي ظهر عبر التاريخ كان قد جـرى خـلال فترة الانتقال من الإنـتاج الفـردي (( Individual Production إلى الإنـتاج االجـمعي، الإنـتاج الرأسـمالي ( Socialised Production )، وقـد تمثل ذلـك بـقيام الرأسـماليين بمصادرة واغـتصاب كل ما يملـكه الأفـراد المنتجـون ( Manifactura ) وتحويلهم إلى عمال مأجورين. كما وجد أيضاً أن التنافس بين الرأسماليين يؤدي إلى تصفيات كبرى ـ كبار الرأسماليين يصادرون ويغتصبون كل ما يملكه الرأسماليون الصغار ـ هنا يتجلى قانون الطبيعة quot; نفي النفي quot;. ويستمر نفي النفي بأن يقوم العمال الذين صنعهم الرأسماليون الكبار باغتصاب كل ما يملكه هؤلاء وما يسهل ذلك هو عملية تركيز الإنتاج في مؤسسات رأسمالية قليلة ضخمة.
ما نضع تحته خطين في هذا المقام هو نفي الرأسماليين للمنتجين الفرديين، أي أن العداء بين المنتجين الفرديين من جهة والمنتجين الجمعيين من جهة أخـرى هو عـداء بنيـوي بحـكم الطبيعـة. هذه الحقيقة الأساسية الكبرى غالباً ما ينساها البحاثـة والمفكرون.
الخدمات وانتاجها
أول ما يفاجئنا به إنتاج الخدمات هو غياب جميع المكونات الخمسة التي تشكل مجتمعة الإنتاج الرأسمالي:ـ لا رأسمال ولا عمال ولا أدوات إنتاج ولا مواد خام حتى ولا مكان خاص بالإنتاج. إنه لا يملك ولو خصيصة واحدة من خصائص نموذج الإنتاج الرأسمالي، لذلك لا يمكن اعتباره نموذجا رأسماليا بأي حال من الأحـوال. لـقد أكد ماركس مرارا وتـكراراً على التعارض الطبيعـي البنيـوي بـين الإنـتاج الفـردي ( Individual Production ) والإنـتاج الجـمعي (Socialised Production) بشكله الرأسـمالي. إنتاج الخدمات هو إنتاج فردي لذلك هو إنتاج بورجوازي لكنه ليس إنتاجا رأسماليا إنه شبيه إلى حد بعيد بإنتاج الفلاحين باستثناء أن الفلاحين ينتجون سلعة مادية وليس خدمة ويملكون وسيلة إنتاج وهي الأرض ومعدات الفلاحة خلافاً لمنتجي الخدمات الذين لا يملكون شيئاً. لأسفنا أن ماركس لم يعن بدراسة إنتاج الخدمات إذ لم يدر في خلده للحظة واحدة أن منتجي الخدمات سيطيحون يـوما ما بالرأسـماليين الذين شـكلوا في الماضي أقـوى طبقة ظهرت في التاريـخ. الإنـتاج الفردي الذي عناه ماركس هو إنتاج المانيفاكتورة. إنتاج الخدمات يشبه أيضا إنتاج المانيفاكتورة لكنه أقل قوة منه وأكثر عجزا..
1. الخدمة ليست سلعة مادية فهي لذلك غير محـدودة القيمة، إنها هلامية. قيمتها الاسستعمالية غير معروفة تماما قبل استهلاكها. إنها بلا حدود وبلا شكل أو هيأة.
2. الخدمة سلعة كسيحة إذا جاز التعبير، فهي لا تستطيع الوصول إلى السوق ولا تُـعرض فيه. وهذا مسألة حاسمة ومصيرية في بنية الرأسمالية. فالخدمة بهذا لا تقيم علاقات مع السلع الأخرى ـ إنها ليست صنماً ـ وهكذا فإن قانون القيمة الرأسمالي لا يظللها ولا يعمل فيها.
3. الخدمة ( سلعة ) لا يفقدها منتجها لدى بيعها كما يفقد الرأسمالي منتَجَه. إنها ملتصقة به ولا تنفصل عنه فهي فردية تماما. إنها لا تدور في الدورة الرأسمالية M\C\M )أو نقد/سلعة/نقد (. إنها لا تمتلك دورة يتحقق الربح من خلالها بل تستبدل مباشرة S\M )أو خدمة/نقد (. وعندما تباع قبل إنتاجها في حالة الإستخدام فإن بدلاتها لا تخضع لقانون سوق العمل بحجة المهنية.
4.الخدمة ذات قيمة غير قابلة للتحليل. قيمتها لا تحوي quot; فائض قيمة quot; فمنتجوها ليسوا عمالا على الأقل. والدورة السوقية ( M-C-M ) شرط لازم لاستخراج فائض القيمة
5.الخدمة ( سلعة ) طفيلية إنها لا تستطيع الوصول إلى السوق دون إتكاء على سلعة مادية لتكون جزءا منها، من قيمتها وهي مع ذلك جزء غير محسوس وغير مطلوب وغير مرغوب فيه بل الأفضل ألا يكون أصلا. فمن يشتري سلعة رأسمالية ( تلفزيون أو ثلاجة ) فإنه يدفع ثمن خدمات متعددة لا يريدها ولا يستعملها أبدا طالما أنها لا تضيف أية قيمة استعمالية (Use Value)للسلعة الرأسمالية ذاتها من مثل النقل والتأمين والتعبئة والتخزين والمناولة والمصرفية وغيرها وغيرها. حين تُستعمل السلعة تكون جميع هذه الخدمات قد انقضت وفُـقدت تـماماً.
6.الخدمة ليست سلعة وليست سلعة سوقية أو صنما لأنها تنتج وتستهلك في ذات اللحظة. إنتاج الخدمات له خصائص وتداعيات كثيرة أهمها:
أ ) الإنتاج الفردي ( Individual Production ). إنتاج الخدمات يعود بعلاقات الإنتاج إلى ما قبل الرأسمالية حين كان الإنتاج يعتمد على الصناعات الفردية. وفي الإنتاج الفردي تتواهى علاقات الإنتاج وتضعف إلى أبعد الحدود. وبالمقابل يتنامى تقسيم العمل ويكتمل فلا يعود المنتج بحاجة لبناء علاقات مع المنتجين الآخرين.
ب ) الإنحـلال الطبقي. ضعف علاقات الإنتاج وتكامل تقسيم العمل يؤديان بالضرورة إلى الإنحلال الطبقي. تنحل طبقتا العمال والرأسماليين وتتهمشان ؛ وهاتان الطبقتان هما مصدر الإنتاج الوفير في المجتمع الرأسمالي. وفي مثل هذه الظروف يحتشد الجسم الرئيسي للأمة في الوسط وتتوسع الطبقة الوسطى إلى أقصى الحدود بخلاف المجتمع الرأسمالي الذي يحرص فيه الرأسماليون على محدودية الطبقة الوسطى قدر المستطاع.
ج ) الإنقسامية ( Schismatic ). فردية الإنتاج وضعف علاقات الإنتاج وانحلال الطبقات تؤدي هذه جميعها إلى تواهي عوامل الوحـدة بين شرائح المجتمع وكتله المختلفـة الأمر الـذي يشجـع الإنقسامات فيه. فـتتزايد حـركات التفتيت والإنقسامات في المجتمع لأسباب عرقية وطائفية ودينية ولغوية وحتى لأسباب مهنية وتقسيم خاص بالعمل.
د ) تدهور قيمة النقد والتضخم النقدي. تهميش الطبقة العاملة يعني بالطبع تهميش الإنتاج السلعي وتراجعه مما ينتج عنه تدهور في قيمة النقد الوطني وانفلات تضخم نقدي متسارع.
هـ) عجز ميزان المدفوعات. يرافق إتساع الطبقة الوسطى تزايد كبير في الاستهلاك كما في الاسـتيراد وينعكس هـذا في عجـوزات متفاقمة في ميزان المدفوعات.
و ) المديونية. عندما يصبح العجز في ميزان المدفوعات حالة مستديمة يستحيل التخلص منها لا تجد الدولة مفراً من الإستدانة للحفاظ على البنية الاجتماعية القائمة رغم تشوهها. وتتراكم الديون دون أن يكون بالمستطاع الحد منها.
ز ) العملة الملك. التضخم النقدي المتسارع وانهيار العملة الوطنية واستفحال المديونية لا تترك خياراً للدولة سوى الإرتـهان إلى ( العملة الملك ) وهـي في هذا العـصر ( الدولار الأميركي ). تـعوّم الدولة عملتها في بحـر الدولار هربا من الغرق.
ح ) هلامية الأحزاب. الإنحلال الطبقي ينعكس مباشرة في إنحلال الأحزاب إذ تفقد الأحزاب هويتها الطبقية كما تفقد إيديولوجـياتها وبرامجـها السياسـية لتصبـح بمختلف مسمياتها متشابهة السياسـات.
ط ) سقوط القيم. لئن كانت القيم في المجتمع الرأسمالي تشترى وتباع في السوق كما سائر السلع فإن القيم في مجتمعات الطبقة الوسطى، مجتمعات الخدمات، تفقد كل قيمة لها... ليس النقد وحده يفقد من قيمته بل القيم أيضاً تفقد كل قيمة فتنهار كل المنظومات القيمية، وبانهيارها يسود الانحطاط الفكري والثقافي.
تفكيك النظام الرأسمالي
بادر لينين إلى تحقيق رؤية ماركس في تفكيك النظام الرأسمالي العالمي فقام على رأس الحزب الشيوعي البولشفي بثورة أكتوبر 1917 كخطوة أساسية لتحقيق ذلك. وشعورا بمصداقية المشروع اللينيني ـ وهذا يجب ألا يغيب عن البال ـ أحست الرأسمالية العالمية بخطر حقيقي يداهمها ويحدق بها. عشرات الجيوش والحملات الفاشية أرسلتها إلى الأراضي الروسية لوأد الثورة إلا أن العمال وفقراء الفلاحين الروس وقفوا بثبات وضحوا بكل شيء ليتمكنوا من حماية أول ثورة اشتراكية في التاريخ فكان أن هزمت الرأسمالية العالمية شر هزيمة على الأراضي الروسية ـ على الإنسانية ألا تنسى أفضال الشعب الروسي تلك والتي يدفع ثمنها اليوم بأغلى ما لديه. لقد جن جنون الرأسمالية العالمية بعد تلك الهزيمة فكان أن ضربت بوحشية مسعورة الثورتين الاشتراكيتين في المجر وفي ألمانيا التاليتين لثـورة أكتوبر. واستمر جنونها لتقيم حكما فاشيا في أيطاليا 1922 وحكما نازيا في ألمانيا 1933 ليكونا سـدين منيعين في وجه الثورة الاشتراكية.
بعد أن برهنت الثورة الاشتراكية على صحة المشروع اللينيني في تفكيك الرأسمالية العالمية وذلـك من خـلال نجاح الحزب البولشفي في بناء الثورة من الداخل خلال عشر سنوات فقط 1929ـ1939 أدرك الإمبرياليون أن قدرهم يحتم عليهم خوض حربهم الأخيرة فكان عدوان كل أوروبا الرأسمالية الفاشية موحدة بقيادة هتلر على الإتحاد السوفياتي في 22يونيوة 1941. التقتيل والتدمير الذي قارفه هؤلاء المجرمون لـم ولن يـكون له نظير في التاريخ لكنهم لم يفلحوا في الوصول إلى قلب الثورة. كانت مسيرة الجيش الأحمر الظافرة من ستالينغراد إلى قلب برلين برهانا قاطعا على صحة المشروع اللينيني وشرعيته التاريخية.
خرج الاتحاد السوفياتي من الحرب أقوى قوة في الأرض الأمر الذي أهله لحمل ثورة التحرر الوطني العالمية على كاهله كمسار ناجع آخر نحو تفكيك النظام الرأسمالي العالمي. وكان أن تحققت رؤيا لينين القائلة بأن شعوب المستعمرات لن تحقق استقلالها إلا من خلال نجاح الثورة الاشتراكية عالميا. لقد تحررت جميع الدول التابعة والمستعمرة خلال الفترة 1946ـ1972.
في عام 1971 أمسكت الأزمة بفكيها الفولاذيين ( المعسكر الاشتراكي من جهة ومعسكر قوى التحرر الوطني من جهة أخرى ) أمسكت بخناق الرأسمالية العالمية ورأى الإمبرياليون الأمريكان قبل غيرهـم حـتفهم بأم أعينهم. لقد رأينا عيانياً الجوع والعوز يأخذ برقاب المجتمعات الرأسمالية المتقدمة في أوروبا الغربية في سبعينيات القرن الماضي. هبّ هؤلاء للإسعاف السريع وكان أول ما فعلوا تحـرير الولايات المتحدة من معاهدة بريتنوودBritainwood) ( القاضية بتغطية النقد بالذهب وكان هدف هؤلاء الامبرياليين بقيادة نيكسون سـرقة العالـم وخاصة نظراءهم في المعسكر الرأسمالي بعد أن طلب ديجول من الولايات المتحدة رسمياً تحويل الدولارات الفرنسية إلى ذهب عام 1968. لقد حولوا عبارة (IN GOD WE TRUST ) اي quot; بالله نثق quot; المطبوعة على الدولار إلى ( IN MIGHT WE TRUST ) أي quot; بالجبروت نثق quot;. إذاك غدا الضامن الجديد للدولار ليس الذهب وليس الإنتاج البضاعي بل القوة وجبروت الولايات المتحدة الأميركية. ما إن هـمّ الأمريكان بمعالجة رأسماليتهم حتى تنادى قادة الدول الصناعية الخمس الكبرى إلى مؤتمر في جنيف 1974 قرروا فيه حقن العالم كل العالم، الرأسمالي وغير الرأسمالي، بحقن سامة لا علاج لها وتتمثل في:
1.زيادة الإنفاق الداخـلي بقصد زيادة الاستهلاك والتخـفيف من اخـتناق السوق الرأسمالية. من هـنا بدأت مرحلة الاستهلاكية ( Consumerism ) ونحن ما نزال نتذكر التضخم النقدي الهائل الذي اعترى دول المتروبول حتى وصل في الولايات المتحدة إلى أكثر من 20% وفقد النقد فيها أكثر من 60% من قيمته.
2. فتح خزائن المال لحكومات الدول النامية للاقتراض منها ما تشاء وبتسهيلات غير مسبوقة وكان الهدف الظاهر هو تصدير فائض البضاعة إلى تلك الدول للتخـفيف من الأزمـة وأما الباطـن فهو إغـراق أسـواق الدول النامية بالبضائع الاستهلاكية الرخيصة لمحاصرة الاقتصاد الوطني وتدميره نهائيا.
3.توسيع قطاع إنتاج الخدمات وهو القطاع المعروف كلاسيكيا كعامل حيوي في تخفيف الأزمة كون العاملين فيه يستهلكون كثيرا وينتجون قليلاً ودون أن يصل إنتاجهم إلى السوق.
4.أخذت دول المتروبول تستدين لكي تزيد من الإنفاق العام، الإنفاق الذي يفعل بقوة في ازدياد مساحـة الطبقة الوسـطى الاجتماعية على حسـاب الطبـقات الأخرى. لقد وصلت ديون هذه الدول إلى أرقام فلكية فمثلاً وصلت ديون الولايات المتحدة عام 98 إلى 6 تريليون دولارا
5.أخذت دول المتروبول تستورد أكثر مما تصدر بكثير فالولايات المتحدة يبلغ عجز ميزانها التجاري السنوي في أواسط التسعينيات حوالي 720 مليار دولار أي 2 مليار يوميا. أما الزعم بأن الشعب الأميركي ينتج أكثر مما يستهلك فهو زعم يكذبه الميزان التجاري بعجزه المتواصل دون توقف.
الإنـقلاب الإجـتماعي
مثل هذه التفاعلات العميقة النوعية في المجتمعات الرأسمالية الكلاسيكية الغربية قادت إلى تغيرات نوعية في البنى والهياكل الاجتماعية. الإغراق في الإنفاق والتحول إلى إنتاج الخدمات عملا على مضاعفة مساحة الطبقة الوسطى في صفحة المجتمع على حساب الطبقة العاملة بالطبع بحيث أصبحت الطبقة الوسطى ثلاثة أو أربعة أضعاف الطبقة العاملة في بلدان الرأسمالية الكلاسيكية. وهذا يعني بالضروة إنهيار نموذج الإنتاج الرأسمالي. فالطبقة الوسطى بإنتاجها الخدمي تساهم ب 80% من مجمل الإنتاج القومي GNP للولايات المتحدة الأميركية في حين لا يساهم الإنتاج الرأسمالي بأكثر من 15% وتبلغ مساهمة الطبقة الوسـطى في بريطانيا 75% وفي فرنسا 70% وفي ألمانيا واليابان أكثر من 65%.
يتفق جميع الدارسين على أن مساحة الطبقة العاملة قد تآكلت كثيرا خلال الربع الأخير من القرن العشرين إلى أن وصلت في الولايات االمتحدة مثلا وهي زعيمة العالم الرأسمالي حوالي 15% من قوى العمل الاجتماعية. التفسير الوحيد لهذا التآكل هو تآكل الإنتاج الرأسمالي ليقوم مكانه إنتاج الخدمات وهنا تثور ثلاث قضايا مفصلية في علم الاقتصاد وهي:
1.هناك من يقول بأن نموذج الإنتاج الرأسمالي لم يعد بحاجة إلى أعداد كبيرة من العمال نظراً لتطور أدوات الإنتاج. هذا صحيح ضمن شروط معينة، أي أن كمية الإنتاج التي كان ينتجها 10عمال مثلاً ينتجها اليوم خمسة. إلا أن الرأسمالية كنموذج إنتاج لا تقف عند هذا الشرط. فالنظام الرأسمالي أصلا أقام شرعيته على أساس أنه يدعو جميع القادرين على العمل لمزاولة الإنتاج أي خلق قيم مادية جديدة لم تكن موجودة من قبل. التقنية الجديدة سمحت بتشغيل خمسة عمال بدل عشرة لكن الرأسمالي لم يعد يربح من الخمسة سوى نصف ما كان يربحه من العشرة ـ بل هو أقل من ذلك فعلا. الآلات خرساء صماء لا تنتج شيئا قط. كما أن مثل هذه المزاعم تفترض أن المجتمعات الرأسمالية لا تحتاج إلا ما ينتجه الخمسة وليس العشرة في حين نجدها اليوم تمعن في الإستيراد السلعي.
2.وهـناك من يقول أن الإنتاج الحديث للخدمات هو إنتاج رأسمالي. الخـدمات، وهي ليست سـلعا وليست أصناماFetish ) ( بالمفهوم الماركسي للصنمية، لا سوق لها ولا تحمل فائض قيمة بالاضافة إلى الخصائص الأخرى للانتاج الرأسمالي، لا يمكن أن تشكل النموذج الحقيقي الكامل للانتاج الرأسمالي ـ لا بد أن يتطور إنتاج الخدمات ليصبح أقـرب إلى النموذج الرأسمالي لكنه لن يكون النموذج ذاته. وجد إنتاج الخدمات بداية ليخدم نموذج الإنتاج السائد وليس ليكون سيدا عليه وإلا لما وجد أحداً يدفع كلفة هذا الإنتاج. كلفة الخدمة تأتي أصلا من دورة الإنتاج السلعي. التعليم والصحة والأمن وغيرها من الخدمات، كلها ما وجدت إلا لتخدم عملية الإنتاج السلعي الرأسمالي. اليوم تستدين الولايات المتحدة ملياري دولار يوميا لتعيش فلو كان إنتاج السلع فيها 80% من مجمل الإنتاج القومي بدلا من 15% فهل كانت ستقع تحت طائلة مثل هذه المديونية الفلكية.
3.الاقتصاد المعرفي: يدّعي اقتصاديو البورجوازية الوضيعة أن المعرفة وابنتها التكنولوجيا قد أخذت تشكل قوى الإنتاج الرئيسة. المعرفة والتكنولوجيا هي من وسائل الإنتاج ولا يجوز بحال من الأحوال خلطها مع قوى الإنتاج. التحليل العلمي لقيمة السلعة الرأسمالية لا تحوي أي بند للمعرفة. فالسيارة التي تم انتاجها بوساطة أحدث وسائل التكنولوجيا هي بذات قيمة السيارة المماثلة لها تماما والتي تم انتاجها بوساطة تكنولوجيا قديمة بل لعلها أرخص. البورجوازية الوضيعة تقدم مثل هذا الإدعاء الوقح مستهدفة تنحية الطبقة العاملة عن موقع القيادة في عملية الإنتاج.
ما حدث في الربع الأخير من القرن العشرين هو إنقلاب الخادم على سيده. نموذج إنتاج الخدمات والذي وظيفته التاريخية خدمة الإنتاج السلعي لا أكثر هب وبانقلاب مجنون لمحاصرة الإنتاج السلعي الرأسمالي وتضييق الخناق عليه لأكثر مما يحتمل حتى أنه شرع بالرحيل في ظاهرة تسمى العولمة. تهرب الشركات الرأسمالية الكبرى من مراكز الرأسمالية إلى الأطراف. هذه الشركات لم تعد تتحمل الأتاوات التي تطالبها بها quot; دولة الرفاه quot;، حكومات الطبقات الوسطى في المراكز. العولمة التي يصفها خطأ بعض المراقبين بالبعث الرأسمالي ليست إلا إنهيارا حـقيقيا للرأسمالية. الشركات الرأسمالية الكبرى لا تـهرب طوعـا إلى الأطراف فهذه الأخيرة ليست مؤهلة بحال من الأحوال لتوائم شروط الإنتاج الرأسمالي بل تهرب رغماً عنها وفي صراع من أجل البقاء.
تقوم الطبقة الوسطى بمغامرة الإنقلاب تحت رايات ـ الإقتصاد المعرفي، التكنولوجيا، العمال ذوو الياقات البيضاء.. ألخ أثبتت ضباع الطبقة الوسطى أنها أقوى من نمور الرأسمالية التي جثت على ركبها صاغرة أمامها في أسواق المال حيث تغرف منها ما تشاء من الأموال دون أن تلوث يديها بالانتاج. إنقلاب الطبقة الوسطى على الطبقة الرأسمالية لن يكون له أي نصيب بالنجاح. صحيح أن الرأسمالية تنهار، وهذا واضح، لكن الطبقة الوسطى لن تستطيع أن تقيم مجتمعاً طبقوسطيا مستقراً. العناصر المادية للحياة لا تمتلك منها الطبقة الوسطى عنصرا واحدا، إنها جميعها من عائلة الإنتاج السلعي. القضية الأساس أمام الانقلابيين هي أنهم يريدون السلطة لهم والانتاج القذر للرأسماليين. يخشون رحيل الرأسماليين حيث لن يتبقى عندهم شيء من عناصر الحياة. لذا كانت مظاهرات سياتل وديفوس وبراغ ـ إنهم ضد رحيل الشركات الكبرى من المراكز إلى الأطراف.
تناقض الطبقة الوسطى هو أنها وهي تحول العالم كله إلى قوام واحد في عالم واحد، عالم ينتج الخدمات ويدفع بالطبقات الوسطى إلى سدة السلطة إلا أنها في ذات الوقت ضد العولمة التي تسمح برحيل الشركات الرأسمالية الكبرى من المراكز إلى الأطراف.
الطبقـة الوسطى ليس لديها مشروع عالمي تقدمه للبشرية. إفلاسـها محتوم وسريع. المأمـول كنسها من على مسرح التاريخ قبل وقوع الكارثـة.
التعليقات