في الذكرى الثالثة والأربعين لإنشائها..
منظمة التحرير الفلسطينية بين دعوات الإصلاح و مطالب إعادة البناء

تأتي الذكرى الثالثة والأربعين لإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية في الثامن والعشرين من مايو 1964م في وقت تختلط فيه الدعوات المطالبة بإصلاحها مع دعوات أخرى تطالب بإعادة بنائها على أسس جديدة، وبينهما دعوات تتهم بالنيل منها ومحاولة تجاوزها إلى بناء منظمة تحرير جديدة. فالذي لا شك فيه أن إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية قد شكل مرحلة جديدة في التاريخ النضالي المعاصر، ونقطة تحول كبيرة في تاريخ القضية الفلسطينية، وأنها قد حققت انجازات كبيرة على الصعيد المحلي والعربي والدولي، وحولت القضية الفلسطينية من قضية لاجئين إلى قضية شعب يناضل من أجل حقوقه السياسية وعلى رأسها حقه في تقرير المصير، كما أن المنظمة التي اعترف بها ما يزيد عن مئة وأربع عشرة دولة _حيث فاق في ذلك الوقت عدد الدول التي اعترفت بالدولة العبرية_ قد نقلت القضية إلى أفاق عالمية وحلقت بها في أروقة الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية والعربية. ونجحت في انتزاع حق التمثيل للشعب الفلسطيني بعد صراع وتحديات مع قوى حاولت تجيير القضية الفلسطينية لمصلحتها. وشكلت المنظمة فوق ذلك الأم الحاضنة للفصائل الفلسطينية وهي كما يقول البعض أصبحت تشكل الوطن المعنوي للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده. ومع ذلك وبالرغم من الإنجازات الكبيرة للمنظمة فإنها عانت أيضاً منذ نشأتها من تجاذبات داخلية وخارجية لحرفها عن مسارها، ومحاولة إغراقها بالمال من أجل إضعاف النهج الثوري لها لاسيما بعد سيطرة الفصائل المسلحة عليها في سنة 1968م وتحويلها من جسم رسمي عربي تحت قيادة أحمد الشقيري إلى جسم ثوري نضالي تحت قيادة القائد أبي عمار. كما عانت المنظمة من مناكفات فصائلية استنزفت كثيراً من الجهد والوقت كان يمكن أن يستثمر في خدمة المشروع التحرري الفلسطيني. ولا بد من القول إن العرب كان بأيديهم الضفة الغربية وشرقي القدس وقطاع غزة عندما تم إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية التي كان هدفها تحرير باقي فلسطين التي سيطرت عليها الدولة العبرية عام 1948م ولكن العرب قد خسروا ما تبقى من فلسطين عقب نكسة 1967م التي تطل علينا الذكرى الأربعين لها بعد عدة أيام، وبالتالي أصبح الهدف من منظمة التحرير الفلسطينية تحرير كامل الوطن الفلسطيني الذي أصبح تحت الاحتلال الصهيوني. وبالرغم من تبني منظمة التحرير عند إنشائها ميثاقاً قومياً وتعديله إلى ميثاق وطني عام 1968م يتضمن مواد عدة تدعو إلى نهج الكفاح المسلح لتحرير فلسطين فإن المنظمة قد بدأت تقدم التنازلات منذ بداية سيطرة الفصائل المسلحة عليها حيث تم طرح فكرة الدولة الديمقراطية في فلسطين. كما تم سنة 1974م تقديم تنازل آخر من خلال البرنامج المرحلي أو برنامج النقاط العشر والذي تضمن بشكل رئيس إقامة السلطة الوطنية الفلسطينية على أي جزء يحرر من فلسطين. وقد تم اتخاذ هذا القرار من أجل مشاركة المنظمة في مؤتمر جنيف الذي كان يعد له عقب حرب 1973م.
وتعرضت المنظمة إلى هزات وهزات لاسيما عقب حرب لبنان 1982م وتدمير البنية العسكرية التحتية للمنظمة في لبنان، ثم خروجها من لبنان وتشتت قيادتها الذي تم استضافتها استضافة سياسية وليس عسكرية في تونس. وتحول المنظمة بعد ذلك من ثورة خنادق إلى ثورة فنادق بدأت تدور في فلك الرؤية الأمريكية للتسوية، والأنظمة العربية التي تتبعها حيث تم الدخول في مباحثات مع الولايات المتحدة الأمريكية ثم توقيع الاتفاق الفلسطيني الأردني الذي يتضمن في جوهرة كيفية المشاركة في عملية سلام وفق المنظور الأمريكي. ثم تعرضت مكانة المنظمة إلى التراجع عربياً ودولياً حتى جاءت الانتفاضة الفلسطينية الأولى لتنقذها من حالة التردي الضعف. وهنا اتجهت منظمة التحرير نحو الموافقة على فكرة حل الدولتين وجاء إعلان الاستقلال الفلسطيني سنة 1988م في الجزائر تعبيراً عن رؤية الحل السلمي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ثم تلا ذلك مؤتمر مدريد سنة 1991م لتدخل المنظمة في المفاوضات ضمن الوفد الأردني. وبعد أن كانت منظمة التحرير ترفض قراري مجلس الأمن 242 و338 وتهاجم كل من يعترف بهما كأساس قبلتهما المنظمة.
ثم دخلت المنظمة في مفاوضات سرية في أوسلو تمخض عنها إعلان المبادئ في أوسلو الذي شكل أرضية اتفاقيات القاهرة في مايو 1994م التي تم بموجبها إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية. وهنا نجد أن منظمة التحرير الفلسطينية قد شكلت مرجعية للسلطة الوطنية الفلسطينية ومع ذلك فقد بدأت القيادة الفلسطينية تتغول على منظمة التحرير الفلسطينية لصالح السلطة الوطنية الفلسطينية. وأصبح هناك ترهل واضح في مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية. وبدأ ثقل المنظمة يتركز على مناطق السلطة الفلسطينية وضعف دورها على مناطق تواجد الفلسطينيين في الشتات بالرغم من كونها الإطار الحاضن للجميع. وهكذا عانت منظمة التحرير الفلسطينية كما عانت سابقاً من تسلط النهج الفردي الفصائلي عليها، وكيف تم تجييرها لصالح العملية السلمية، وكيف تم تهميش فصائل المعارضة الرئيسية التي عانت هي الأخرى من انشقاقات كانت بمثابة تداعيات لعملية السلام والواقع الفلسطيني الجديد. وكان الاجتماع الأخير للمجلس الوطني الفلسطيني في غزة بتاريخ 24/4/1996م الذي quot;قرر تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني وإلغاء المواد التي تتعارض مع الرسائل المتبادلة بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة إسرائيل. وكلف المجلس الوطني اللجنة القانونية إعادة صوغ الميثاق الوطني الفلسطيني على أن يتم عرض ذلك على المجلس المركزي في أول اجتماع لهquot;. وبالرغم من عدم قيام اللجنة القانونية بما أنيط بها فإن التساؤل يبقى حول قانونية هذا القرار والتعديل وهل تم بالفعل. ومع ذلك فإن ما تم هو تغيير في نهج منظمة التحرير الفلسطينية وتغيير في العقلية والفكر الذي يقف وراء الميثاق. وهنا حدث تراجع واضح في دور مؤسسات المنظمة، حيث لم يجتمع المجلس الوطني بعد ذلك ولو لمرة واحدة لتقييم المرحلة الجديدة عقب فشل عملية السلام، وقيام انتفاضة الأقصى، وحدوث المتغيرات الدولية بعد حادث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، ثم ما حدث بعد وفاة الرئيس ياسر عرفات رحمه الله. وهكذا قبل أعضاء المجلس التغيب والتغييب والتهميش والفشل في الارتقاء لمستوى المسؤولية ومواجهة التحديات التي واجهت القضية الفلسطينية. وبالرغم من انعقاد المجلس المركزي خلال هذه الفترة إلا أنه لم ينجح في مواجهة التحديات ومعالجة إعلان الدولة الفلسطينية التي جاء تاريخ استحقاقها سنة 1999م، ومعالجة الترهل الذي أصاب مؤسسات المنظمة، وعدم القيام بسد الفراغات القيادية على أسس سليمة. وقد عانت منظمة التحرير كذلك من الصراع على النفوذ بين الرئيس أبي مازن وفاروق القدومي، وقيام الرئيس أبي مازن بإلغاء بعض مكاتب الصندوق القومي والتنافس بين الطرفين على السيطرة على السلك الدبلوماسي. وتم كل ذلك في ظل الفشل في عقد جلسة للمجلس الوطني أو المجلس المركزي، وفشل اللجنة التنفيذية في اجتماعاتها المتكررة في معالجة التحديات التي واجهت القضية الفلسطينية خلال انتفاضة الأقصى وعقبها، وما استجد من تحديات بعد دخول حركة حماس النظام الرسمي الفلسطيني، وترؤسها للحكومة الفلسطينية عقب فوزها الساحق في الانتخابات التشريعية الثانية في يناير 2006م، وما عانته السلطة من ضعف وحصار، وما شهدته مناطقها من انفلات أمني بلغ أعلى المستويات، ثم الدخول في متاهات الصراع الداخلي.
وعندما تم مهاجمة منظمة التحرير الفلسطينية القائمة من قبل حركة حماس، وطعنوا في شرعية مؤسساتها، وتمثيلها انبرت الأقلام، وتتطاولت الحناجر للدفاع عن منظمة التحرير الفلسطينية. وأصبحوا يتباروا في الخطب عن كون منظمة التحرير الفلسطينية هي الأم والحاضن للمشروع التحرري الفلسطيني، دون أن يدرك هؤلاء أنهم قد صمتوا دهراً عن الممارسات الخاطئة التي حرفت منظمة التحرير الفلسطينية عن مسارها، وبالتالي لم تنجح في تحقيق أهدافها وتطبيق بنود ميثاقها. وكيف سعت حفنة من المتنفذين والانتهازيين لإضعافها وتدمير هياكلها من أجل مصالح ومنافع شخصية وحفاظاً عن امتيازات أصبحوا حريصين على ألا يخسروها حتى لو ذهبت القضية الفلسطينية إلا الجحيم. ونحن هنا لا نشكك في صدق بعض المبادرات الداعية لإصلاح منظمة التحرير ولكن لا ننفي نفعية وانتهازية بعض المبادرات الأخرى التي أصبحت تسعى إلى الإصلاح الشكلي للمنظمة وأصبحت تردد كلمات في ظاهرها حق وفي باطنها باطل. وهنا لا بد من الإشارة إلى اختلاف المصطلحات الداعية لمعالجة وضع منظمة التحرير فهناك أصوات الفصائل الوطنية التي تدعو إلى quot; إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية وتطوير مؤسساتها وتفعيل دورها وترسيخ مكانتها كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطينيquot;، وهناك صوت حركة حماس التي تدعو إلى إعادة بناء منظمة الحرير الفلسطينية على أسس جديدة تأخذ بعين الاعتبار المستجدات التي حدثت على الساحة الفلسطينية وأهمها فوزها في الانتخابات التشريعية الثانية. وهي دعوة يرى فيها البعض محاولة للسيطرة على منظمة التحرير وصوغها من جديد ضمن المشروع الإسلامي، حيث ترى حركة حماس أن فوزها الساحق في الانتخابات التشريعية يعطي لها الحق بترؤس المشروع الوطني الفلسطيني وإعادة صياغة أهدافه وهيكلياته، وكيف أن حركة حماس تمتلك مشروعاً إسلامياً متكاملاً وبالتالي هي لا يمكن أن تكون جزء من كل بل يجب أن تكون الكل. وهكذا تشهد منظمة التحرير الفلسطينية في الذكرى الثالثة والأربعين دعوات تتفاوت في هدفها وغايتها، وشبهات وشكوك حول بعضها. فقد وجهت اتهامات مباشر للقائمين على عقد مؤتمر برشلونة للجاليات الفلسطينية قبل أيام، وكذلك للقائمين على اجتماع بيروت في مايو الماضي. كما أن هناك خشية أن يطبق نظام المحاصصة على منظمة التحرير الفلسطينية كما تم تطبيق ذلك على الحكومة الفلسطينية الحالية. وما حدث من اتفاق حول إصلاح المنظمة في اتفاق القاهرة في آذار 2005م والاجتماعات التي تلت ذلك بين السيد أبي مازن والسيد خالد مشعل في دمشق لم يجد طريقه إلى التطبيق. وهناك خشية أن تكون محاولات الإصلاح للمنظمة منطلقة من اجتماعات للأمناء العامين للفصائل لتكريس نظام المحاصصة. وهذا يتم تحويل السلطة الفلسطينية إلى هيكل للمحاصصة، ومنظمة التحرير إلى مشروع للمحاصصة فيما يذهب المشروع الوطني الفلسطيني أدراج الرياح.
ومع إدراكنا بأن وضع منظمة التحرير الفلسطينية الحالي غير مقبول لأي فلسطيني وطني غيور، وأنه لا بد من إصلاحها ضمن رؤية تقييميه سليمة، والأخذ بالاعتبار المستجدات على الساحة الفلسطينية والإقليمية والدولية فإن هناك تساؤل يرواد البعض هل من فشل في إصلاح السلطة الوطنية الفلسطينية، وفشل في معالجة الأوضاع الفلسطينية القائمة والمأزومة، وفشل وفشل وفشل... يمكن أن ينجح في إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية، أو حتى إعادة بنائها، أم أصبحنا نعبد هياكل وأصنام قمنا بصناعتها ثم تدميرها خطوة خطوة والبكاء على أطلالها بينما تركنا الوطن والقضية يتوهان في أنفاق فئويتنا وغياهب جهلنا وتهربنا من المسؤولية.

د. خالد محمد صافي