يتبادر لذهن المرء، وهو يلتقط لفظة quot;علماء الأمةquot; التي تتوارد كثيراً، في المناسبات التلفزيونية والأحاديث الفضائية، هذه الأيام، للتدليل على أزلام السلطات ومشايخ الإفتاء محللي ( من الحلال) سياسات العمالة والتبعية والفسق والذين صاروا، وعلى غفلة من الزمان رجال أعمال وأصحاب ثروات أسطورية، ومن نجوم المجتمعات الكبار يسرحون ويمرحون، وعلى كيف كيفهم، بلا أي ضابط أو إيقاع، بأنه أمام مجموعة من الفطاحل والعباقرة الأفذاذ المتواجدين في مراكز الأبحاث والجامعات العريقة والذين يحاججون بالمنطق والعقل والبينة الدامغة، ويعتمدون على مبدأ التجريب العلمي والبرهان الاستدلالي المنطقي في توصيل المعارف العلمية الوضعية الناجزة لا الغيبة، ولا تأخذهم في العلم لومة لائم، مثلهم، تماماً، مثل ديكارت، ولافوازييه، ونيوتن، وإينشتاين، وإديسون، وغاليلو، وباستور، وفيثاغورس، وتالس... إلخ ممن قدموا للإنسانية خدمات جليلة وعظيمة، لا تنسى، ولا تقدر بأثمان. وأن علماءنا الأشاوس، quot;فلتات الزمانquot; يرقدون، أيضاً، وبدورهم، على كنوز ثمينة، وهائلة من المعلومات والعلوم في الفيزياء، والطب والكيمياء، والذرة، والإليكترون، والفلك والفضاء، وقد استحقوا، لذلك، لقب علماء بجدارة واستحقاق، نتيجة لما قدموه من مخترعات.

ينال ذالك المصطلح العظيم، وبرأيي، الكثير من الظلم والإجحاف والازدراء، إذا ما استمر إطلاقه، وبنفس الوقت، على quot;علماءquot; السحر ومسوقي الشعوذة في الفضائيات، وأولئك العلماء الحقيقيين الذين يعملون، على سبيل المثال لا الحصر، في مركز quot;ناساquot; لعلوم الفضاء، الوكالة الوطنية الأمريكية للفضاء National American Space Agency. فمن الجائر، ومن غير العدل أن يتساوى الاثنان حتى في الألقاب، وإن بدت العملية، وبرمتها، في النهاية شكلية. فشتان، في الحقيقة، وخلط مقيت، وفرق كبير بين أولئك وهؤلاء الذين تعج بهم شاشات البترودولار ومحميات النفط الأمريكية. وشتان بمن يتسلح بالعلم الموثق وبالدقة والحجة المنطق، وبمن يحمل مجهراً وتلسكوباً وشاشة كومبيوتر، وبين من يتسلح بالثقافة الشفهية غير المكتوبة، والجهل، والوهم، والتخاريف، والخزعبلات المرويات، وسقف علومه هو البول، والحجامة والإرضاع، وباقي الترهات، وممن يساجلون ويسترزقون على تفسير، وصحة، حديث متواتر وغير مسند، ومشكوك في صحته منذ ألف وأربعمائة عام. أليس من السخف والإجحاف أن نسمي هؤلاء علماء، وأولئك علماء ونضعهم بنفس المعيار والميزان، لتصبح عندها، وكما يحاجج quot;علماء الأمةquot;، ردة فعل ذاك البدوي، وفي غابر الأيام، على هذا الحدث أو ذاك مقياساً موحداًً، ونبراساً مقدساً وملزماً لجحافل القطعان الهائمة كي تهتدي به في كافة الأزمان؟

لقد حظي علماء الغرب بالمهابة والسمعة الطيبة والاحترام نتيجة لما قدموه للإنسانية من انجازات ومكتسبات راقية، وحصدوا لذلك النياشين المشرّفة والجوائز الغالية، وسجل التاريخ أسماءهم بأحرف من ذهب ونور وغار، فيما لم ينل quot;علماء الأمةquot;، والحمد لله، سوى تلك السمعة المتواضعة، وغير المرضية بسبب انعدام إنجازاتهم، تقريباً، على الصعيد العام، اللهم إلا في زرع التخلف وتجذير الأوهام، وعدم انعكاس جهودهم quot;البحثيةquot; رفاهية وازدهاراً على الناس، وبسبب مسخهم للعقل، وتبعيتهم العمياء لماريشالات القهر والإفقار وسلاطين الاستبداد. فالفقر والجهل والأوبئة والمجاعات والفساد والانحطاط العام والانهيارات القيمية والمعرفية والسلوكية الكبرى، تصول وتجول وتضرب أطنابها، وكل الفضل والحمد لله، من طنجة لجاكرتا حيث تمتد إمبراطورية quot;علماء الأمةquot; الأفاضل الأبرار.

فالعلم، وكما هو معروف، وفي جميع دول العالم التي تحترم نفسها، بحر ليس له قرار،لا ينطق عن هوى ومزاج، وليس لمحاباة ومرضاة أولي الأمر المعصومين الأبرار، متعدد الفروع والأوجه، ومتشعب المسالك والطرقات، وهو حال من الكشف المتواصل ديناميكي حركي متطور غير ثابت، ومتحول مع الأيام، يعتمد على المنطق، والدقة، والإثبات والإبداع والإقناع، ولا مجال فيه للتلاعب، والتأويل والشبهة والاحتماليات. ويثرى كل يوم بتجارب جديدة، وخبرات حديثة، وينتقل من حال إلى حال، بحيث ما كان بالأمس فتحاً وضرباً من ضروب الخيال، يمسي اليوم، وبرغم أهميته التأسيسية الكبرى قي تلك البنيوية التراكمية الهائلة، شيئاً من الماضي. فالصعود إلى القمر، مثلاً، وبرغم استثنائية الحدث وتاريخيته، قد أصبح من التقاليد العلمية المنسية، التي أصبحت مجرد مرحلة من مراحل ارتقاء العلم، والعقل البشري في مسيرته نحو السمو والكمال، وإن كنا نعترف، بأن لا حدود، ولا مدى لذاك السمو والارتقاء، إذا ما حافظ علي آليته الخلاقة المعروفة في البحث والاستكشاف، وعدم الركون إلى أية مراحل وإنجازات ومهما علا شأنها.

فهل وضع quot;علماء الأمةquot;، قدّس الله سرهم، شعوبهم في مصافي الدول الراقية المتقدمة تكنولوجياً وحضارياً وصدّروا للعالم quot;المتخلفquot; إبداعاتهم الخلاقة الفريدة والنادرة، ونقلوه من جحيم الظلم، إلى نعيم النور والضياء أم لمّا تزل قطعانهم، بعد، هائمة تشخر في سبات عميق في وديان الجهل والدجل السحيقة الظلماء؟ وهل تسجـّل وفي كل يوم، ومع مطلع كل شمس، لهم براءات الاختراع المختلفة في الطب والعلوم والفيزياء، التي تدفع الحياة قدماً إلى الأمام، لا الوراء كما يتخيلون ويتمنون، وتخفف الألم والمعاناة عن كاهل المرضى، والجياع، والمعذبين الفقراء في مشارق الأرض ومغاربها؟ ولذا ترى طلاب العلم من أصقاع العالم المختلفة تتقاطر، فرادى وقطعاناً، نحو بؤرهم العلمية الثرية في الأزهر والخرطوم والقصيم وبريدة ووهران وكراتشي ومقاديشو وقندهار للنهل من علوم الرضاعة، والبول، والحائض، وأسرار الجماع وفنون الإيلاج، واستكشاف الطرق المثلى والمتعددة لسفك الدماء التي يجهل كنهها أولئك الجهلة الأدعياء في هارفارد، وأوكسفورد، وجورج تاون، الذين أعمى الله بصيرتهم قبل بصرهم، ولم يمن عليهم بنعمه على quot;علماء الأمةquot;.

فـquot;علماء الأمةquot; الرواد، وبفضل من الله سبحانه، ونصر أيدهم به، يحاربون الجهل، والبدع، والضلالات، والخرافات، ويدعون للحب والتآخي بين البشر، ويبشرون بعالم مليء بالحب والتسامح والإخاء بين الناس، ديدنهم العدل والمكاشفة والشفافية والصراحة وكلمة الحق أمام السلطان الجائر، ويقدسون حرية الرأي والمعتقد وحقوق الإنسان، ويحاربون الفساد، ولا يتواطؤون، ولمعلوماتكم، البتة، ولا يتحالفون، أبداً، مع الحكام الظلمة الفجار القساة، ولصوص المافيات وقطاع الطرقات، ولا يأخذون، أبداً، بالثقافة الشفهية المتواترة لسلسلة نقل فلان عن علتان ابن خالة فلان وصهر علان وابن أخت فليحان بالرضاعة الذي كان يشرب البول حين سمع ذلك من جار ابن عمة فلان وهو يستنجي بالصحراء؟

نضال نعيسة

[email protected]
[email protected]