هناك بطبيعة الحال نوعان من المجتمعات، مجتمع منغلق يتوجس دائماً من الجديد والغريب والمغاير، وهناك مجتمع منفتح يؤمن بالتغيير والتجديد وبالتجاذب التفاعلي مع الجديد والمغاير والمختلف، وما يظهره أيّ مجتمع من أنماط سلوكية واجتماعية ومشهديات حياتية وعقلية جمعية، هو نتيجة لتحكم مجموعة من العوامل الثقافية والدينية والتاريخية والبيئية فيه، وتسير به إما نحو الانفتاح أو في اتجاه الانغلاق، ومن الطبيعي أن نجد بعض المجتمعات تخرج من ظلامية الانغلاق إلى رحاب الانفتاح، ويحدث ذلك عادةً نظراً لتغير وتحول المفاهيم والعوامل الثقافية والفكرية التي تموج في تعرجات مناخاتها الاجتماعية والتربوية..
وعادةً ما تستجيب المجتمعات لضرورات التغيير والانفتاح والتجديد، حينما تستشعر أهمية كل ذلك لمواكبة تطور الحياة العصرية في حركتها التصاعدية ولتفهم احتياجات المجتمع الثقافية والاجتماعية الواقعية، وعلى العكس من ذلك نجد أن المجتمعات التي تزداد هروباً إلى الأوهام والخرافات والأساطير والماضويات الثقافية والمعتقدات الدينية الغيبية واليقينية والتعصبية، تزداد انغلاقاً وتحجراً وتزمتاً وتهوى العيش دائماً في تلك الدوائر الضيقة، وربما تستأنس باجترار الأوهام والغرق في معتقداتها الدينية الوراثية لتحصّن كياناتها من مؤثرات وتأثيرات التموجات الثقافية الحداثية التي تعصف بالعالم من كل مكان، ولذلك فإن التجدد والتجديد والتغيير والانعتاق من أسر القيود الماضوية والدينية، صفات ملازمة للمجتمعات الانفتاحية المقبلة على الحياة بروح تفاعلية خلاقة، وبعقلية واقعية مدركة لضرورة الانفتاح على ثقافة التعددية وثقافة الحياة الحديثة..
وعادةً ما يتم تأسيس الانتماء الاجتماعي للفرد في المجتمعات المنغلقة والانغلاقية وفقاً لتبنيه المطلق والنهائي لموروثات مجتمعه الثقافية والدينية، ويرى أنه من الضروري أن يتم تبني تلك الموروثات بصورة يقينية وتعصبية ومطلقة للمحافظة على خصوصية المجتمع الثقافية، في حين أن الانفتاح والتجديد قد يكونان تدعيماً أوتقويماً للخصوصية الثقافية لأي مجتمع كان وليس تعدياً عليها، ولكن هذه حجة المجتمعات التي تتوجس دائماً من الانفتاح والتغيير حينما تكون صفة الطرف الآخر الحداثة والتطور والجرأة الواعية في تجاوز السائد والمعتاد، لأن في هذه الحالة تكون الخصوصية الثقافية للمجتمعات الانغلاقية من الهشاشة والرخاوة بحيث لا تستطيع التعايش مع الجديد والغريب والمختلف، أو لأنها مُصابة بالجمود والتكلس والتصلب في شرايينها الداخلية..
وعلى العكس من تلك المجتمعات المنغلقة، نجد أن المجتمعات المنفتحة والانفتاحية تسعى لتأسيس فكر الانتماء الاجتماعي للفرد وفقاً لمعطيات الحداثة السياسية والثقافية التي تحقق للمجتمع سبل الرخاء والتعايش والتقدم، ووفقاً لاجتراح طرائق التفاعل الحيوي مع الحياة المدنية المعاصرة، والتي هي في النهاية تعكس تطور المفاهيم البشرية في تعايشها العقلاني والواقعي مع الحياة انطلاقاً من عقلية التغيير والتجدد، ولذلك عادةً ما نجد أن الفرد في المجتمعات الانفتاحية يؤمن بحقه الإنساني كاملاً في الاختيار الحر، وفي اتخاذ القرار المناسب له بحرية مطلقة، ونجده مؤمناً بثقافة التعددية ومؤمناً بحقوق الإنسان المدنية والدينية ومؤمناً بالحريات وحرية الرأي والتعبير سبيلاً للمحافظة على مكتسباته الديموقراطية، ومؤمناً أيضاً بذاته المستقلة وخصوصيته الفردانية، وحينما تغادر المجتمعات كهوف الظلامية وتتمرد على قيود الانغلاق والتزمت وتنسلخ من معوقاتها التراثية الماضوية بعد جهود إنسانية ثقافية جبارة وبعد مجهودات فكرية وفلسفية، من المستحيل أن تراودها فكرة الارتداد للحياة الانغلاقية والفكر المتزمت، بل تسعى حثيثاً بكل ما تملك للمحافظة على مكتسباتها التقدمية التي حققتها وسعت لتثبيتها في حياتها المعاصرة، كما حدث تماماً مع المجتمعات الأوروبية التي غادرت عصور الظلامية والتزمت، ومن الاستحالة بمكان أن تفرط بما وصلت إليه، وتعود مجدداً لعصور الانغلاق والتحجر، لأن ثمة ثقافة مجتمعية حية وعصرية ونابضة بالتدفق التفاعلي والخلاق ومبنية على فلسفة الانفتاح والتجديد تدفعها بتصميم واعٍ للتمسك بمكتسباتها المذهلة في حقول الفكر والفلسفة والأدب والفن..
ومن هنا يتبيّن لنا مدى أهمية الثقافة للمجتمع، فالثقافة عصب التطور لأي مجتمع ومفتاح تقدمه ونهوضه، فالثقافة صانعة للحياة ومانحة للتجدد وعاكسة لوعي الإنسان وإدراكه، ومهما تعرض المجتمع للنكسات والانكسارات والتراجعات، فإن الثقافة في تدرجاتها المفاهيمية الحية وعبر منظوماتها المعرفية كفيلة بتحقيق النهوض لأي مجتمع من ركام الهزائم، وهذا الأمر رأيناه يتجلى بوضوح في التجربة اليابانية، حينما منيت اليابان بهزيمة كارثية في الحرب العالمية الثانية، حيث تدمر كل شيء فيها تقريباً، وخرج منها اليابانيون منكسرين ومتوجعين، ولكن سرعان ما وضعت اليابان أقدامها في مدراج الصناعة والتطور، عندما تيقنت أن محاولة النهوض من ركام الخراب تكمن أولاً في الثقافة التي يجب أن تنتهجها كحالة مجتمعية عامة، دافعة وصانعة ومسؤولة، تلك الثقافة التي يصنعها العقل ويقولبها في منظومات معرفية ترتكز على مفاهيم عدة تتمثل في مواجهة الواقع وليس الهروب منه إلى الماضي أو إلى الأوهام، وضرورة الانفتاح وعدم التقوقع والانغلاق، وتحدي الظروف والإيمان ذاتياً بثقافة التحدي، والذهاب إلى المستقبل وليس انتظار ما سيجيء به، أو استقباله منزوعي الإرادة والتصميم والفكر، وبذلك استطاع اليابانيون من خلال ثقافتهم الحية النابضة، والتي تحولت إلى منظومة مفاهيمية تجذرت عميقاً في بنيتهم الذهنية والعقلية، أن يذهبوا بعيداً في صناعة الحياة الباهرة، ونفس الأمر أيضاً انطبق على ألمانيا بعد خروجها محطمة ومشتتة ومهزومة من الحرب العالمية الثانية، ولكنها وجدت طريقها إلى الازدهار والتقدم من خلال تبنيها أولا لثقافة التحدي والتصميم والمواجهة والانفتاح..
وإذا ما حاولنا أن نفهم لماذا المجتمعات المنغلقة متخلفة ومتشرذمة وفاقدة للحس الانفتاحي، نستطيع أن نُرجع ذلك إلى وجود نزعات عدة ثقافية وشعورية ومسلكية تتحكم فيها، تزيد من انغلاقها وتشرذمها وتخلفها، وتحيلها إلى كيانات متصارعة متنافرة، وتغلق عليها بالتالي منافذ الانفتاح ورحابة التعددية وجمالية التسامح، منها نزعة التعصب الطائفي التي عادةً ما تستفحل وتنتشر في المجتمعات ذات المرجعيات الدينية المختلفة وتتغذى على الموروثات الدينية الماضوية المهيمنة والمتسلطة، وأينما وجدتَ مجتمعاً يعاني من التشرذم والانقسام والتقاتل المذهبي، فاعلم أنه مجتمع تعربد فيه العصبيات الطائفية الدينية، ويتخذها أداةً للصراع على المكاسب السياسية وغيرها، ويتخذها أيضاً مرجعية شرعية لاثبات كل طرف أحقيته الكاملة في احتكار الحقيقة المطلقة، وعليهِ يبقى هذا المجتمع الذي تتحكم فيه النزعة الطائفية منشغلاً فيما بينه على مدار الوقت بتعميق الانقسامات والتقسيمات المذهبية، من دون أن تمتلك الكيانات الطائفية فيه أدنى درجات القدرة الذاتية على تجاوز هذه النزعة التدميرية المترسبة فيها، وما حكاية المؤتمرات التي تعقد هنا وهناك من أجل التقريب بين المذاهب سوى واجهات إعلامية استعراضية لتبادل الابتسامات الخادعة فيما بينهم أمام الكاميرات..
أما النزعة الأخرى التي تتحكم في المجتمعات المنغلقة وتزيدها انغلاقاً وتخلفاً وتوصد في وجهها أبواب الانفتاح، فهي نزعة الارتداد للهوية الضيقة، سواء أكانت هوية دينية أم قومية، والتعصب الأعمى لها والدوران فيها والتمحور حولها والتلذذ باستحضار أدبياتها الماضوية المدببة والمتورمة، فمن شأنها أن تجعل المجتمع، أي مجتمع يضيق برحابة العالم من حوله، ليبقى مشحوناً بترددات التوجس من الجديد والغريب والمختلف، لأنه مجتمع يؤمن بالفكر والطرح الأحادي ويعتقد بأن الانفتاح يستهدف هويته القومية والدينية، وتنشأ مع هذه النزعة نزعة إقصاء المختلف ونزعة التعصب للموروثات التراثية ونزعة التقديس الملطق للرموز التاريخية والتراثية، وفي هكذا مجتمع منغلق يجاهد ويفاخر معتقداً بنقاء هويته الدينية والقومية الضيقة، تصبح مسألة القبول بالتعددية الثقافية والهوياتية فيه ضرباً من الوهم، بينما في المجتمعات المنفتحة على قيم الإرث الإنساني المتعدد، نرى إنها تنزع دائماً إلى ترسيخ مباديء الإنسانية الحرة في كياناتها المجتمعية كواحدة من أقدس المرجعيات في تجسّدات وتمثلات الهوية الإنسانية الذاتية، وفيها يشعر الفرد بانتمائه إلى الكيان الإنساني العام الذي يسعى إلى تثبيت الاعتراف بالإنسان كقيمة مقدسة، بعيداً عن فكر الانتماءات الدينية والعرقية الضيقة وبعيداً عن فكر الانتماءات الثقافية الدوغمائية، فالأصل في المجتمعات المنفتحة يبقى هو الإنسان الحر، ذاته وقيّمه وكرامته وحريته وقراره، ويأتي أولاً وقبل كل شيء، ولذلك نجد أن المجتمع الإنساني الانفتاحي الحداثي يؤمن بقيم الحرية كمنظومة ثقافية متكاملة، مع التأكيد على إشاعة قيم التسامح والمساواة لأنها الإطار الذي تنطلق منه الحريات وبالأخص حرية الرأي والتعبير والتي من شأنها أن تعمل على تعميق قيم التسامح والمساواة في المجتمع وتحترم في الوقت نفسه قيم الذات الإنسانية..
في الحقيقة لا أدري، ربما بقدر ما نستشعر فداحة ما تغرق فيه مجتماعتنا من تخلفٍ وانغلاق، ربما بذات القدر قد نستشعر مدى حاجتنا إلى فكر الانفتاح..
محمود كرم
كاتب كويتي
[email protected]
التعليقات