إن المتتبع لما يشهده مخيم نهر البارد من أحداث واشتباكات بين الجيش اللبناني وما يسمى تنظيم فتح الإسلام، يجد المرء نفسه أمام تساؤلات حزينة وسوداوية. حيث يقف المرء عاجزا أمام هذا الهول الذي يقف في طريق استقرار شعوب هذه المنطقة وليس هذا وحسب بل يقف أمام رخص الدم لدى النسق السياسي في هذه المنطقة. هذا النسق الذي تحتل السلطات السياسية فيه وجه الحدث وخلفيته بالآن معا. أما معارضتها فهي في خضم تلاطم تياراتها التي تجذرت عمقيا في فضاء الفكر السلطوي العربي على مدار ستة عقود وأكثر. كما أنها اختلطت مع بئر النفط الذي بات ينز دما. استعراضا لما يجرى دوما يذكر بما جري لأن السلطة تعيد إنتاج نفسها بسياقات مختلفة ولكن بأساليب واحدة تقريبا. ففي العراق لا نجد حتى الآن نسق سياسي داخلي:
فإما المحسوب على الأمريكيين وإما المحسوب على الإيرانيين وإما على السوريين وإما على أشكال الإقطاع السياسي والديني والطائفي المتهافت. إن هذا التعميم لايطال كل الساسة العراقيين بالطبع بل يطال الفاعل منهم في هذه المرحلة، فروائح الفساد في كل أقاليم العراق باتت تزكم الأنوف. دون أن يدرك هؤلاء السادة أن في زمن صدام هنالك احتكار لمشهد الفساد ورجاله ـ لينظروا إلى أشقاءهم في سورية ـ أما الآن فالوضع العراقي لم يعد مختبئا تحت عباءة القمع الدموي والشرس لصدام حسين. باتت الآن الأوضاع مكشوفة تقريبا. ولن نعلق كثيرا الآن على هذا الأمر. إن الطبقة السياسية العراقية التي عانت كلها من النفي والتشرد والقمع كما تقول دوما نراها بشكل مفاجئ تدير ظهرها حتى لمن أوصلها إلى السلطة ونقصد الإدارة الأمريكية وتلتجأ للنسق السياسي السلطوي في المنطقة دون أن يرف لها جفن أن هنالك شعوب لا نريد أن نقول شقيقة بل شعوبا تحتل من الاستبداد بصمت مطبق ـ المثال الإيراني السوري ـ ومع ذلك نجد أن هذه الطبقة السياسية لو تسنى لها الآن إخراج الأمريكان دون أن تخسر مواقعها لما قصرت جهدا إلى هذا الهدف. فهم يريدون إعادة إنتاج الويل السلطوي الصدامي بواجهة جديدة. والأمريكان في الحقيقة لا يريدون مواجهة حقيقية مع معضلتهم الأساس: وهي حلفاءهم في المنطقة أقصد إسرائيل والطبقة السياسية الحاكمة في العراق وبعض الدول الأخرى ! فإيران وسورية كسلطتين من محور الشر كتصنيف أمريكي معتمد رغم كل ما يشكلانه من تهديد عنفي وأمني على المنطقة إلا أن السلوك السياسي المواجه لها هو سلوك مبني على نفس المعادلات السلطوية ولهذا نجد أن الأمريكيين كل يوم يخرجون بترنيمة جديدة كان منها لجنة بيكر هاملتون والآن الحوار الأمريكي الإيراني. إن الحلفاء الأكثر قربا من الأمريكيين هم في أجندتهم الخاصة ليسوا مع نجاح نموذج عراقي ديمقراطي مدني، ولكن الفارق بينهم وبين الحلف الإيراني السوري هو فارق راهن: فلو استعرضنا اللوحة قليلا: في إسرائيل نجد من هم مصرون على الاحتلال وعدم تشجيع تيار السلام الفلسطيني. وفي فلسطين نجد حركة حماس التي حملت إلى السلطة نتيجة لأمرين: الأول هو إرادة إسرائيلية غير مباشرة من خلال سعي بعض تياراتها الحاكمة إلى إدخال اتفاق أوسلو حيز الاستنقاع ليموت بالتقادم كما استشهد عرفات ! والثاني استنقاع الفساد في رجالات السلطة الوطنية الفلسطينية. وتبعثر المرجعية الأساس لأجهزة القوة في غزة والضفة. الإسلاميون لكونهم خارج السلطة يترنحون بين الإمساك بالسلطة كما هم وبين الممانعات التاريخية والتي تتعلق بروحية العصر وتاريخيته وقيمه وثقافته. لهذا هم مؤسسون على روحية السلطة البائدة لذا هم اعتبروا صدام شهيدا وحلفاء لإيران وسورية ! في لبنان الوضع يؤكد ما نقول لو نظرنا الآن إلى اللوحة الموالية لإيران وسورية سنجد زعران الحركة الإسلامية ( فلسطينيين ولبنانيين وخلافه ) التي تربت في كنف الاستخارات السورية. وسنجد أئمة الفساد في النظام الأمني السوري اللبناني. والسيد الرئيس حسني مبارك منذ خمسةعشر عاما وهو يقوم بدور الوسيط بين حركة فتح وبين حركة حماس ! أليس شيئا يدعو للتساؤل عن الملفات التي كانت تبحث ولازالت تبحث حتى اللحظة وتحتاج إلى كل هذا الوقت من الزمن والدم الفلسطيني مدرارا إسرائيليا وبيد زعران الشارع السياسي العنفي. نخلص من هذه اللوحة دون أن نكمل طرح الأسئلة المرة:
لو تعامل الأمريكان كما تعامل صدام حسين مع الأكراد ومع المعارضة العراقية لكان الأمن الآن مستتب في العراق.
ولو تعامل الجيش اللبناني كما كان يتعامل الرئيس الراحل حافظ الأسد مع حماة ومع لبنان لكانت الأمور الآن أمنيا أفضل من ذلك بكثير. لم يعد هنالك من داع لتكرار القول أن الفكرين القومي والإسلامي بشكل خاص هما جزءا من نسق سياسي تهاوى إلى غير رجعة من جهة ومن جهة أخرى لم يعد يجد له من مسرب سوى تلك الأنظمة العاتية لكي تحتصنه وتحتضن برامجه كما احتضن صدام الأحداث التي شهدتها سورية في نهاية السبعينيات من القرن العشرين ولازال هنالك من يريد التحقيق بقضية مجازر حماة !
الطرفان المتصارعان في سورية كانا يتصارعان على أجندات وأنساق سلطوية مريبة ودموية. لهذا يمكن لنا الحديث عن عنوان واحد هو من نهر البارد إلى دجلة ومن الدجيل إلى حماة ابحثوا عن سلطات المنطقة ! ورغم كل هذا الوضوح في المشهد يخرج علينا نحن السوريون من السوريين ليقول لنا أن النظام السوري لديه استراتيجية جديدة وشرعية جديدة تجلت في كرنفال الاستفتاء الأخير ! ويبشرنا بأن هنالك قانون أحزاب سيصدر قريبا ! وعلى العالم في الداخل والخارج أن ينتظر استرتيجية النظام الجديدة ! سنختم بلا تعليق لأن الكاتب هو من كبار دعاة العلمانية في سورية !

غسان المفلح