تتعدد التعريفات بخصوص مصطلح التعصب لغة واصطلاحاً ومع ذلك يمكن أن نقول: إن التعصب لغة واصطلاحاً يحمل معنى الشدة والتشدد بصحة الرأي وعدم الاستعداد لتقبل الرأي الآخر حتى لو كان على صواب. ويبدو أن هناك تقاطعاً بين مظاهر التعصب وأسبابه ولكن الذي لا شك فيه أن التعصب ارتبط بكلمه الأعمى ويعد لهذا الارتباط دلالة كبيرة بحيث يعني ذلك أن التعصب هنا يعمي البصر والبصيرة فيتحول الإنسان المتعصب إلى شخص أعمى حتى لو كان مبصراً. فهو هنا لا يرى أمامه إلا ما هو مرسوم وراسخ في عقله وبالتالي تفقد العين هنا قدرتها على الرؤية. ويمكن أن نقوم بتشبيه هنا من أجل تقريب الفكرة بأن المتعصب هو من يضع يده أمام عينه مباشرة بحيث لا يستطيع فقط أن يرى من العالم الذي أمامه سوى كفة يده التي تشكل عالمه الخارجي ولا يستطيع أن يرى سواها، ولكن إذا بدأ الفرد بإبعاد كفة يده قليلاً عن عينيه فإنه يرى بعض الجوانب الخارجة عن نطاق الكف، ويعني ذلك بدء مشاهدة أشياء جديدة إضافة إلى كفة اليد، وهكذا دوليك بمعنى أن إبعاد الكف عن العين لمسافة اكبر تعنى توسع مجال الرؤية. وهكذا نجد أن التعصب هو نقيض التسامح والانفتاح و رديف الانغلاق بمعنى الانغلاق على الذات والانغلاق الفكري بحيث يتم التمسك بأفكار معينة يتم التقوقع حولها ولا يتم التفكير في التحليق خارجها، بل يبقى الفرد أسير هذه الأفكار دون سواها. وهو أيضاً تعبيراً عن التحجر في مقابل الابتعاد عن المرونة. وهناك أنواع من التعصب مثل التعصب الفكري والديني والمذهبي والقومي والطبقي والحزبي والقبلي والعائلي... الخ.


وسوف نركز في مقالنا على ما نعانيه من آفة العصر في مجتمعنا الفلسطيني وهو التعصب الحزبي الذي أدى إلى استقطاب ثنائي حاد في مجتمعنا، وساهم في إحداث حالة من الانقسام السياسي الخطير. ومع ذلك فإن ما نراه أخطر من الانقسام السياسي هو الانقسام الاجتماعي الحاد الذي تبع الانقسام السياسي، حيث أن الانقسام الاجتماعي يشكل مرضاً مجتمعياً يصعب وتطول فترة علاجه. والذي لا شك فيه أن التعصب الحزبي وما تبعه من انقسام سياسي واجتماعي حاد هو الذي ولد الانغلاق عن الآخر في المجتمع الفلسطيني وعدم تقبله، وهو هو الذي يقف وراء ثقافة الإقصاء والتهميش وصولاً إلى حالة من التطهير التي تعبر عن نفسها من خلال الاقتتال والصراع الداخلي الذي يشكل ليس استنزافاً بشرياً بل قيمياً لما هو جميل في قضيتنا ومشروعنا التحرري. وهو الذي يقف وراء فشل جولات الحوار الواحدة تلو الأخرى، وسقوط الاتفاقيات وعد صمودها لأشهر أو لأيام أو حتى لساعات قليلة. وهو الذي يقف حجر عثرة في طريق الوصول إلى شراكة وطنية حقيقية. لأن التعصب لرأي يعني نفي الرأي الآخر والتعصب لفصيل يعني التخلص من الفصيل الآخر، والتعصب لقائد يعني إقصاء القادة الآخرين. وهنا أصبحنا ندور في حلقة مغلقة من التعصب والانغلاق والتحجر، وتراجعت قيم التسامح والتضامن والتكافل وحل محلها ثقافة الحقد والكراهية والقتل والتدمير... الخ.


وهنا نرى أن الإشكالية الكبرى في التعصب هو أنه يرتكز على مرجعية فكرية، وهو هنا يشكل نمط سلوكي متعدد المظاهر. وهذه المرجعية الفكرية التي يرتكز عليها التعصب ويستمد منها وجوده واستمراره لا توجد إلا في المجتمعات التي تتسم بالعصبية العقائدية والتخلف الفكري والثقافي، وتضخم نرجسية الذات على صعيد الفرد أو على صعيد الحزب. كما أنها لا توجد إلا في المجتمعات التسلطية القمعية التي ينتفي فيها حرية التعبير عن الرأي، وانعدام الحرية الفكرية. وهي بالتالي مجتمعات مريضة تقوم على الكذب والنفاق والتزلف والمداهنة مما هو في الأسفل لما هو في المرتبة العليا. كما أن هذه المرجعية توجد في المجتمعات القبلية حيث أن التعصب في تعريفه مستمد أيضاً من العصبية أي التعصب لفئة محددة قبيلة كانت أم أسرة وهكذا.


ولابد من الإشارة هنا أن التعصب كنمط سلوكي ينطلق من مرجعية فكرية مغلقة يتم نقله وتعميمه في المجتمع من خلال التربية. حيث أن التعصب هو في الوقت نفسه مظهر من مظاهر التربية التي تمارس في البيت على اعتبار أن الأسرة هي اللبنة الأولى في المجتمع، وهي البيئة الأولى الذي يكتسب منها الفرد قيمه وثقافته، ومنظوره إلى العالم الخارجي المحيط. وهنا يتم الارتباط بين البعد التلقيني والسلطوي في التربية وبين التعصب لأن الارتباط هنا ارتباطاً عضوياً بمعنى أن التربية البيتية القمعية والتلقينية التي يغيب فيها حرية التعبير عن الرأي وتقبل الرأي الآخر لا يمكن أن تنتج إلا شخصاً متعصباً سلطوياً قمعياً تلقينياً يقوم بعملية تقمص مستمرة لشخصية من قام بقمعه سواء على صعيد الأب أو الأم أو الأخ الأكبر، وهو هنا يدور في عملية لا متناهية من تقمص الأدوار. وهذا يوصلنا إلى نتيجة مفادها أن فلسفة وأهداف التربية لأي مجتمع هي التي تحدد طبيعة التربية الممارسة وهي التي تنتج بالتأكيد نمطية تعصبية ممارسة.


ومن هنا فإن معالجة آفة التعصب يتطلب بالتأكيد البحث عن الأسباب دون الخلط بينها وبين المظاهر والأنواع، ولا يتحقق ذلك إلى بإعادة النظر في فلسفة وأهداف التربية التي نتبعها في بناء المنظومة القيمية في مجتمعنا. وأن تكون هذا الفلسفة ليست صياغة نظرية تطفح بها صفحات الكتب المدرسية بل هي سلوك ممارس، هي عملية وعي تنقل الثقافة إلى سلوك ممارس يعتمد بالأساس على عدم التناقض بين الأقوال والأفعال، وفي الوقت نفسه يقدم النماذج العملية التي يتم الاهتداء بها.

د. خالد محمد صافي

لقراءة مقالات اخرى في ايلاف