أصابته ( هند ) بسهم قاتل، أردته صريعاً يتجرع كأس الهوى، فكل يوم يضرب جعفر ملفاً بملف، كيف السبيل إلى الطابق العلوي، علّه يحظى بنظرةٍ من ( هند ) أو بابتسامةٍ منها أو بحديث عابر، وحينما يأتيه النداء عاجلا، يا جعفر: خذ الملف للطابق العلوي واقفل راجعاً لاتتأخر، تنفرج الأسارير عنده، وتدب الحياة بعروقه، وتغدو الإبتسامة في عينيه بريقاً يشع بالأمنيات الجذلى..
وهكذا بين صعود ونزول قصة جعفر كل يوم، هذا العاشق المعنّى، لا يلبث أن يصعد إلا والأمنيات العِذاب تتدفق في قلبه دفعةً واحدة، ومع سبق الإصرار والترصد تبقى آذان جعفر ( شاخصة ) على مدار الوقت لأيّ نداء قادم يحمل له الأمنيات والأحلام من جديد، وحينما لا تأتيه الأوامر بالصعود إلى الأعلى يحاول أن ينسج من خيالات مكره أية حجة ترسل به إلى هناك، وهكذا تجري الساعات في يومه، تارة بطيئة، وتارةً أخرى سريعة وصاخبة كالأمواج، وهو فيها زورق مثقوب، يطفو هنا ويغرق هناك في الأعلى..
بينه وبين الحاج ( يسري ) مسافة متر لا أكثر، وجيرة تجاوزت الثلاث سنوات، ورغم هذا وذاك لم يسلم ( يسري ) المثقل بداء السكري، وبالسنوات العجاف التي قضاها في خدمة الملفات، من مناوشات ومشاغبات جعفر له كل يوم، ففي بداية مجيء جعفر إلى قسم الملفات كان يراه الحاج يسري حملاً وديعاً، ولكن بعد مضي أشهر قليلة أصبح يراه كابوساً مزعجاً يأتيه حتى في منامه، فلم تكن سنوات الجيرة عند جعفر ذات أهمية ولم يحسب للحاج يسري كبر سنه، فضلاً عن نصائحه المفيدة وخدماته الجليلة له كل يوم، هكذا هي العلاقة بينهما، مد وجزر، تصفو مرة وتتعكر مرات كثيرة وكانت تصل القطيعة بينهما إلى أشهر في أحيان كثيرة، وفي أحيان أخري إلى يوم أو يومين، والمضحك في الأمر أن الخصام والقطيعة بينهما تختفي فجأة، لتعود بينهما حالة الود والتصافي بسرعة فائقة ومن دون أية مساع حميدة أو تدخلات أجنبية أو محلية، فكان يسامحه الحاج ( يسري ) ويصفح عنه، لأنه يعلم جيداً بأن ازعاجات جعفر شر لابد منه شاء ذلك أم أبى، مردداً: حسبي الله ونعم الوكيل..
إما أن يموت مدنياً زاهداً في هذه الدنيا، أو أن يحيا مهنياً مبتهجاً بمزايا المهنية ( المدنية درجة وظيفية عادية إما المهنية فهي أرقى بكثير وهذه الدرجات تخص غير الكويتيين )، هذه قصة جعفر كل يوم، من الصباح إلى أن يلفظ الدوام أنفاسه الثقيلة، وحسب أخبار الأرصاد المهنية التي تترى على جعفر كل دقيقة وكل ساعة من مصادره القريبة والبعيدة، تصيبه كل لحظة في مقتل، لكأنَ بينه وبين المهنية مسافة عمر لابد أن يفنى..
في باديء الأمر لم أكن أعلم شيئاً عن قصة جعفر هذه، ولكن مع الأيام عرفتُ بأنه يتقاضى راتباً زهيداً بالكاد يسد به رمق الحياة الطاحنة، وأنه يتمنى أن تشمله الرعاية الوزارية ليتحول مهنياً تتفتح أمامه أبواب الحياة، ويدخل من خلالها جنات النعيم حسب اعتقاده، ونحن نتعاطف معه كثيراً، ولانملك غير ذلك كونه أباً لثلاثة بنات هنّ ضحايا ما جناه جعفر من حظه العاثر في هذه الدنيا، ولكنه يريد منا أكثر من مجرد التعاطف، وكأنما نحن السبب في كونه مدنياً بائساً، ففي كل يوم يصبّ ُ جام غضبه علينا متهماً إيّانا بالتقاعس وعدم السعي لرفع معاناته اليومية، ونحن لانملك إلا البكاء عليه ضحكاً، والبعض منا كان يزيده هماً وغضباً باستفزازه من خلال مصارحته أن المهنية بالنسبة إليه عشم ابليس في الجنة، بينما كان بعضنا الآخر يؤمله دائماً بقرب رفعه إلى درجة المهنية وأنها قادمة إليه على طبق من ذهب، وهو يعلم جيداً بأن أمله في المهنية كأمل القطب الجنوبي في الشمس الساطعة..
ويريد منا ثمناً تعويضياً كونه ( مدنياً ) بفرضه علينا أتاوات يومية، على شكل إفطار مجاني وسجائر وقهوة وشاي وخدمات أخرى معيشية، وكثمن آخر يجب علينا تقديمه له ونحن لا نملكه، بالتغاضي عنه قليلاً للخروج مبكراً من العمل يوم الأربعاء تحديداً بصورة متكررة..
وهكذا ينام جعفر مدنياً ليصحو أيضاً مدنياً عاجزاً عن فعل أي شي سوى إبداء مهاراته الوظيفية الحركية، والتي يرى أنه يستحق عليها درجة المهنية، والاكثار أيضاً من التباكي أمام حائط الملفات وأمامنا صباح كل يوم لإنقاذه من أوضاعه المتردية..
معدم من كل شيء هذا الإنسان المطحون بظروفه القاسية، لا حبلَ نجاة، ولا قلبَ عاشق، ولا مصروف شهر، ولا أملا في غد..
محمود كرم
كاتب كويتي
[email protected]
التعليقات