منذ أن تقابلت وquot;الدكتورquot; شاكر النابلسي في مؤتمر زيوريخ للأقليات، والذي رأسه، لاحظت مدى تزمته، وسلفيته، وتوجهه الأصولي الواضح الأصيل، وتباين مواقفه العملية مع ما يطرحه من أفكار نظرية، وموقفه الواضح المتحيز، تحديداً، مني ومن الدكتورة وفاء سلطان، والذي هدد بنسف المؤتمر، أدركت السبب الحقيقي لهزيمة الليبرالية العربية، وانهيار كل المشاريع الفكرية التنويرية، بسبب ازدواجية المعايير، ومتاجرة أدعيائها بها، وتكسبهم، وعلى حساب شعارات فارغة ومضللة، يرفعونها هنا وهناك ويسوقونها وعلى مبدأ العرض والطلب، ليس إلاّ. فليس من مانع البتة أن يكون النابلسي في هذه الدولة أصولياً ووهابياً، وحتى من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الدولة الأخرى علمانياً وليبرالياً. وهذا ما يفعله السيد النابلسي بنجاح لا أحسده عليه. وإن كان يعتقد بأنه يلعب بالبيضة والحجر، أمام جمهرة من السذج والمغفلين، فنحن نراه على طبيعته وكيف يكشف عن وجهه السلفي والأصولي الحقيقي وسلوكه. وحين أقرأ بعض مقالات النابلسي وأرى التلون والحربائية والمداهنة، وتملقه للبعض، والتغطية على جرائمهم وموبقاتهم، وشيطنة آخرين quot;بعينهمquot;، وإظهار مراجله وعنترياته عليهم من مخبئه الأمريكي، أعلم الدرك الذي وصل إليه حال بعض من دعاة الليبرالية المشعوذين.

واليوم يطالعنا السيد النابلسي بمقال آخر عن المحكمة الدولية التي لا أعرف سبب تهليله لها، وما علاقته بها، وكيف ينصّب من نفسه منظـّرأً، ووصياً على الآخرين. ولا أجد من مقارنة لهذا الموقف سوى موقفه المؤيد للغزو الهمجي البربري الأمريكي للعراق، وتصفيقه المستميت لانتهاك حرمة وسيادة هذا البلد العربي الشقيق الجريح، وما آل إليه من وضع مأساوي فظيع. حيث أن تطور الأحداث وتتابعها أكد قصور نظر، وضمور رؤيوي لا لبس فيه في موقفه المريب، ولاسيما حين كتب مقاله quot;شمس العراق تسطع على لبنان ومصرquot;، والذي بانت اليوم مراميه وقصده الحقيقي من ورائه، إذ أراه يتمنى للبنان الشقيق، ويبشر مصر المحروسة بنفس المصير الأسود البشع الأليم.

موقف النابلسي من المحكمة، وإن كنا لا نوافقه عليه، ونرى فيها على العكس، حصان طروادة اللابس عباءة القانون الخادع المخاتل لفتح بوابة الشرق الأوسط الجديد الذي يبدو أنه ما يزال مقفلاً وعصياً أمام quot;الحالمينquot;، وهي محض افتراء وفبركة وتلفيق للابتزاز السياسي العلني عبر المتاجرة بدماء العرب واللبنانيين. فالدم العربي والإسلامي لم يكن يعني أي شيء لبلير وبوش والنجم الكولونيالي الجديد الساركوزي، والدليل مئات الآلاف من القتلى والمشوّهين الذين كانوا، حتى اللحظة، حصيلة المشروع الجهنمي الشيطاني الأمريكي الخسيس، ولم يحرك كل هؤلاء قيد أنملة في وعي، ووجدان وضمير السيد النابلسي. وإذا كان سيستمر في التهليل لمثل هذه الحركات البهلوانية القرعاء فهذا شأنه الخاص الذي لا نتدخل فيه، وإن كان يعترينا بعض العطف والإشفاق عليه. ثم لا أدري كيف يقع بمطب معرفي رهيب، ويستبق نتائج التحقيق الدولي الذي يبحث في بلد آخر عن قرائن على جريمة اغتيال الحريري. ولكنه قفز لاستنتاجات سريعة وغريبة، معتقداً أنه يحتكر المعرفة والحقيقة، وأما الآخرون فهم قطعان من الهبل quot;المغمضينquot;. ويقع في تناقض رهيب، إذ يثبت التهمة عليه وعلى المحكمة حين يقول وبفمه الملآن إنها تستهدف سوريا، ويدينها سلفاً من حيث لا يعي، ولا يريد.

ولن أدحض تفكيره وأوهامه حيال المحكمة، فستأتيه الأيام بما لا يعلم ولا يستطيع، وستفاجئه التطورات بما لا يخطر لك على بال. والأهم، من هذا وذاك، لن تكون سورية لقمة سائغة، وسهلة للبرابرة والغزاة، كما لا أعتقد أن بمقدور بوش تكرار نفس الحماقات، حتى لو أراد، ولو وقف خلفه بعض العلوج والطراطير المعروفين من قصار النظر وأصحاب التهيؤات، وجيشه يتخبط كالغريق في مستنقع الوحل العراقي، وينادي تارة السوريين، وتارة الإيرانيين، وتارة أخرى من لا حول له ولا قوة من عربان الاستخبارات لنشله من ذاك الشرك الكبير.

المهم، وما يعنيني في المقال المعنون بـquot; الحكمة من المحكمةquot;، هو عبارة فيها منتهى العنصرية ليستدر بها تعاطف رهطه الأصولي، وترويجا لمفاهيم وقيم الشرق الأوسط الحقير، وإشباعاً لنهمه ونزوعه الأصولي السلفي حين قال وبالحرف الواحد:quot; من حظ سوريا العاثر، ومن سوء تقديرها السياسي، وضيق أفقها السياسي بعد رحيل معاوية العلوي (حافظ الأسد)، أنها اختارت.... ثم يكرر نفس الكلام عن السيد الرئيس بشار الأسدquot;. انتهى الاقتباس. ولا أدري هنا كيف يقيّم وينظر للعلويين وما علاقة العلويين بموضوع سياسي وبمحكمة الحريري، وهل يريد السيد النابلسي أن يشتم معاوية بالعلويين، أم يشتم الرئيس الراحل بمعاوية الأموي؟ وفي كلتا الحالتين لم يحالفه الحظ والتوفيق. فالعلوية ليست سبة ولا شتيمة ولا نقيصة لتسم بها الآخرين، وليست للتندر والتفكه أيها النابلسي؟ وليس من اللائق والأدب، يا سيد نابلسي، أن تعيّر الآخرين بانتمائهم الديني والطائفي، والعرقي، حتى وتبرز هذا الشيء كنقيصة ورذيلة يتمتع بها من يحمل هذا اللون العرقي أو الديني، وأنت الرئيس لمؤتمر يدافع عن الأقليات. أكرر هل أصبحت العلوية والانتماء لها سبة ولعنة حتى تعيـّر بها الآخرين؟ ولماذا تشير على الرئيس الراحل حافظ الأسد رحمه الله، وأفسح مثواه، بتلك اللفظة التي يخجل من ترديدها عتاة وغلاة السلفيين؟ وما هذا التلميح العنصري والطائفي والعرقي المقيت؟ وكيف يبيح مدع للعلمانية والليبرالية والتنوير استخدام وترويج مثل هذاه الإهانات العنصرية في مقال سطحي هزيل؟

لماذا هذا التشفي والحقد الواضح الذي لا يقبل الجدل والتأويل، وأراك غداً ستصفق وتطرب كالرعاديد فيما لو أقدم أي مجرم على حماقة جديدة ضد اللبنانيين والسوريين كما صفقت بادئ الأمر على ذبح واستباحة دماء العراقين.

القيمة الحقيقية للمرء، يا سيد نابلسي، لا يحددها انتماؤه العرقي، أو الديني، أو القومي، ولونه وطوله وعرضه ولون شعره عينيه، بل بقدر ما يحمل من مبادئ وأخلاق وقيم إنسانية عظيمة يجسدها سلوكاً إنسانياً رائعاً عظيماً. فهناك من اليهود والغربيين ممن ناصروا قضايا العدل والحرية بأكثر مما يفعل عتاة العروبة والمتأسلمين. وفي القانون الأمريكي الذي تعيش في كنفه أيها النابلسي هناك مادة وفقرة واضحة، ولاسيما بعد إلغاء التمييز العنصري في أمريكا في القانون الشهير في العام 1963، تجرم أية إشارة، أو تلميح عرقي، أو عنصري، أو ديني، بغيض أو النحو باتجاه التشهير أو التمييز بالمعاملة بناء على العرق، أو اللون، أو الدين. فهل يعلم السيد النابلسي بأنه هنا يخرق القانون الأمريكي الذي يتبجح، ويتغنى به؟ وهذا الأمر قبل أن يكون محض أمر قانوني، نعلم مدى تجاهل وتنكر النابلسي له، هو قانون أخلاقي، وإنساني يعمل به حتى أكلة لحوم البشر وسكان الأدغال الذي يبدو أن بينهم وبين السيد النابلسي بون شاسع، وفرق كبير.

فلا يصح يا سيد نابلسي ولا يجوز أن تشتم معاوية بالعلوية، ولا العلوية بمعاوية، فلكل منهم مقام وقيمة واحترام، واعتبار حتى لو كان لنا بعض التحفظات والمواقف على بعض الجزئيات هنا، أو هناك. ولستَ، أصلا، بموقع يؤهلك، أبداً، لتقييم الناس وفرزهم بين صالح وطالح شرير. ولا يصح أن تتعرض للرئيس الراحل بهذا التشهير الرخيص المريض والنظر إليه فقط من خلال أي انتماء ديني وعرقي. فأنا، كعلماني وليبرالي ملتزم، أرى في الراحل الكبير، وأقول الراحل الكبير، لأنه لا تجوز على الميت سوى الرحمة، حسب التعاليم الإسلامية التي أراك تتنكر لها هنا أيضاً، أقول أرى فيه، وبالدرجة الأولى، مواطناً سوريا من الدرجة الأولى، وكأي إنسان آخر من لحم ودم، يأكل ويشرب يتألم يحب ويكره ويحلم ويخطئ كما يصيب، وهذا هو حال الناس أجمعين، ولا أتخذ موقفاً مسبقاً من أحد بناء على العرق واللون والدين وأعيّره به أمام الآخرين.

هكذا علمتني مدرسة العلمانية والتنوير الذي أرجو أن تعيد حساباتك وقراءتك لها، وتفهمها بشكل جيد، واعٍ، وعميق، لا سطحي ضحل شحيح. ومن العار تقييم الناس وازدرائهم، والتلويح بانتماءاتهم، والنظر إليهم من خلال بعد طائفي فقط، ولك منه حسب خلفيتك الأصولية موقف تافه مسبق حقير، والتلويح به والإشارة إليه في معرض حديث سلبي لا ربط البتة بينه وبين بهذا التصنيف وبين الموضوع الذي تدلي فيه. إذ يعتبر هذا إهانة لمكون ومجموعة وتيار بشري وتحريض على الفتنة والعنصرية والتمييز. وأطالب فوراً ودونما إبطاء بسحب تلك العبارات العنصرية والطائفية مباشرة من المقال، لأنها تمس بشراً وأناساً كثيرين، وتلحق بهم ضرراً وأذى معنوي ونفسي كبير، والاعتذار علناً عن تلك الكلمة العنصرية التي يخجل من ترديدها عتاة القتلة والأصوليين الذين أراك تتساوى، وتتفق معهم في هذا الخطاب البذيء، والذي لا أرضاه البتة، لك ولا لأي عاقل، وآدمي.

نضال نعيسة
[email protected]