هل التطور العلمي الذي شهدته البشرية خلال المائة عام الأخيرة، نعمة، أم أصبحت نقمة ووبالا علينا؟؟!.
لا شك أن الكثيرين منا يعتبرونه نعمة ما بعدها نعمة، لأن هذا التطور العلمي وفر للإنسان حاجاته الأساسية وحول حياته من جحيم الفقر والعوز، الى نعيم مقيم، ويسر له كل ما يحتاجه ليمارس حياة ملؤها السعادة والراحة والطمأنينة!.
فالفلاح ينظر الى هذا التطور من منظار كونه قد خلصه من حرث أرضه بالآلات البدائية التي تجرها الأبقار والحمير، فأصبح اليوم يمتلك جرارات تحرث وحاصدات تجمع في ظرف ساعة ما كان جميع أفراد العائلة الفلاحية يجمعونه في أيام تحت القيظ والحر؟!.. وكذا الحال بالحداد والخياط والبراد والسمكري وكل أصحاب المهن الذين أصبحوا اليوم يملكون من الآلات والعدد والأجهزة ما يسهل عليهم أعمالهم ويرفع عنهم التعب والكد والجهد. حتى مفك البراغي أصبح اليوم يعمل بالكهرباء؟؟!..
كل ذلك صحيح مئة بالمئة، فالتطور العلمي وتحول المجتمع، من مجتمع البداوة الى مجتمع الحضارة شيء جميل ومعقول ما نقدرش نقول حاجة عنه..
ولكن هذا التحول له ضريبة، وضريبة باهضة جدا إذا ما قارناها بالحياة البسيطة التي كان يعيشها الإنسان في القرون الماضية.
كان الإنسان في تلك الأزمان لا يحمل عل عاتقه عشر معشار ما يحمله الإنسان في هذا الزمن من الضغوطات النفسية والذهنية والمالية أيضا، وكل ذلك بفضل ما نسميه بالتطور الذي شهدته البشرية.
دعونا الآن نعقد مقارنة بسيطة جدا لأسلوب حياة ومعيشة الإنسان في تلك الأزمان الغابرة، وما يعيشه اليوم، لنخلص في النهاية الى نتيجة عن محاسن ومساويء هذا التطور البشري.
في تلك العهود الغابرة مثلا لم تكن هناك إيجارات سكن، ولا ( خليو) الشقق المفروشة، ولا مقدمات الإيجار الباهضة التي تقصم ظهورالناس، فالناس في ذلك الزمن كانوا أحرارا في بناء مساكنهم في أي مكان أو بقعة يردونها من دون الحاجة الى إستحصال موافقة مديرية البلدية أو وزارة الأشغال والإسكان أو مديرية الأمن العامة؟!. كان يكفي للإنسان أن يختار موضعا لبيته أينما كان ويلجأ الى أفراد قبيلته ليساعدوه في بناء بيت من الطين يعيش فيه حياته طول العمر راضيا مرضيا، فقد كانت الأرض مباحة للجميع، ولم يكن المرء يحتاج الى شراء قطعة أرض سكنية من مكاتب الدلالين، أو ينتظر أن تخصصها له الحكومة بعد أن يتقاعد من الوظيفة ولا يبقى من عمره إلا أيام معدودات.
فعلى سبيل المثال، في العصر الأموي كانت قصيدة مدح واحدة للخليفة تكفي ليقطعك مساحة شاسعة من الأرض تفعل بها ما تشاء؟! أو يهب لك عشرات الجواري الحسان تقديرا منه لمجهودك العظيم في نظم قصيدة مدح عصماء، فيما صرفت أنا تحويشة العمر من أجل تزويج ولدي قبل شهرين، وكانت المصروفات مبلغا كبيرا يفوق ما كان غنمه الصحابي عبدالرحمن أبو عوف الذي قيل أن غلمانه كانوا يكسرون قوالب ذهبه بالفؤوس؟!.
في تلك العصور لم يكن الإنسان يدفع إيجار السكن، ولا التأمينات الصحية،ولا أجور الكهرباء والماء والغاز واللوندري. إلخ إلخ إلخ؟! مع ذلك كانت الحياة أكثر إمتاعا، والإنسان أكثر إبداعا!..
في العصر العباسي مثلا، لم يكن هناك كهرباء، ولكن عباقرة الإسلام ألفوا أمهات الكتب العظيمة تحت نور الأسرجة والفوانيس، فيما عدم العصر الحالي من ظهور ولو عبقري واحد من أولئك الذين ترك كل واحد منهم مجلدات ضخمة من المؤلفات في شتى علوم الحياة؟!..
في العصور الوسطى لم يمتلك المغول السيارات أو المدرعات أوالطائرات أو الأساطيل البحرية، لكنهم إستطاعوا أن يحتلوا العالم من تخوم الصين حتى العراق والشام وهم يمتطون الخيول والعربات التي تجرها الأبقار؟!.
كانت الحياة بسيطة في تلك العصور، ولكنها أصبحت اليوم أكثر تعقيدا بسبب متطلبات الحياة الكثيرة التي يستنزف التطور العلمي ومبتكرات العصر الحديث بسببه كل ما يمتلكه الإنسان.
قرأت قبل أيام مقالا أجرى فيه كاتبه مقارنة جميلة بين راتب الوزير في دولة أوروبية وراتب الوزير في كردستان. وخلص الى نتيجة مفادها، أن ثلثي راتب الوزير الأوروبي يذهبان في المصاريف اليومية ودفع الضرائب. جزء للكهرباء، وآخر للتأمين الصحي،إيجار الشقة، تغيير الديكور، أجور التلفزيون، أجور التلفون، الستلايت،إلخ إلخ.
وأزيد على ذلك مصاريفنا الإضافية بسبب التطور العلمي، سبع كارتات موبايل شهريا للحرم المصون لتتحدث الى أخواتها وكناتها عن شؤون الطبخ اليومية وما تلبسه بنت الجيران، ومثلها سبع كارتات سمان لأولادها الست ليطلبوا أغاني الفضائيات الراقصة التي تملأ سماء الوطن العربي من المحيط الى الخليج،وكارت آخر للتلفون الأرضي، رغم أن تلفوني عاطل منذ تسعة أشهر بسبب حفريات الشوارع، وكارت للتلفون اللاسلكي للتحدث الى ولدي في السويد لإستقصاء أخبار اللجوء السياسي رغم أن كردستان كما قال كيسنجر هي المكان الديمقراطي والآمن الوحيد في الشرق الأوسط؟!!.
مصاريف أخرى باهضة لصيانة وتصليح المبردات والمكيفات التي تتعطل دائما بسبب الإنقطاع المتوالي للتيار الكهربائي المخصص من الحكومة العراقية لأقليم كردستان؟!. ومبلغ محترم لصيانة السيارة وعطلاتها المتكررة بسبب الحفريات في مدينتي والتي بدأت منذ منتصف القرن الماضي ولم تنته لحد الآن؟!
حتى أموال قارون لا تكفي لسد متطلبات الحياة اليومية التي وفرتها التكنولوجيا اللعينة لعائلة مواطن عادي المتحول من المجتمع البدائي الى المجتمع الحضاري، فكيف إذا كان هذا المواطن مسؤولا في الدولة يفرض منصبه الرفيع أن يقيم مآدب الغداء والعشاء على شرف ضيوفه الكرام؟!.
بالمناسبة لقد أورد الكتاب الكريم قصة قارون الذي آتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، ولكن اليس بيننا اليوم من فاق قارون بأمواله المكدسة وهو من شرذمة المسؤولين المفسدين الذين كلما سرقوا من أموال الدولة شيئا صاحوا( هل من مزيد)؟!.
فلينظر إنسان هذا العصرمن حوله ليرى مئات القوارين وهم يخرجون على قومهم في زينتهم ويستكبرون في الأرض، بعد أن كدسوا أموالا طائلة لهم في بنوك تركيا وسويسرا وبريطانيا وغيرها، وتحولت تلك الأموال طبعا بفضل تطور التكنولوجيا والتقدم العلمي الحديث، فلم نسمع أن تمكن الخليفة هارون الرشيد من تحويل بعض رصيده من الخراج الى بنوك قسطنطينة أو القشتالة، والعاقل يفهم الإشارة...

شيرزاد شيخاني

[email protected]