معروف من التاريخ السياسي للعراق أن جمهرة شيعته، وحتى الأميين منهم ، كانوا ذا حس وطني عال وحرص على العراق. كان المشتغلون بالسياسة منهم في الغالب من العلمانيين، الذين كانوا لوالب في الأحزاب اليسارية واللبرالية وحتى القومية قبل ظهور الناصرية والبعث. أما رجال دينهم والمرجعيات الشيعية فلم تطالب يوما بقيام دولة حكم الشريعة بل كانت مواقفهم، عندما يبدون موقفا ما سياسيا، تنطلق مما يعتبرونه لصالح العراق ووحدته واستقلال الوطني الناجز. كان ذلك موقفهم منذ ثورة العشرين ومطالبتهم بتنصيب فيصل الأول، وكان ذلك أيضا عندما أصدروا عن خطأ كبير فتاوى ضد انتخابات المجلس التأسيسي ومقاطعة الانتخابات، ثم الفتوى ضد توظف الشيعة في المناصب الحكومية، وحين كان أحد كبار رجال الدين ينخرط كليا في التفاصيل السياسية، وذلك نادر جدا، فقد تعلموا بعد ذاك من التجربة الشخصية المرة، أن موجعا دينيا لا يجب إقحام الدين في السياسة، بل ربما سيكون عامل تحيز لجهة دون أخرى.هذا ما حدث في الثلاثينات للشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء.
عندما يصرح السيد رئيس الجمهورية بأن شيعة العراق لا يتبعون إيران، فهو حكم صحيح برغم الروابط المذهبية والتاريخية مع إيران. ولكن هنا لا يوجب الخلط بين التقاليد الوطنية الراسخة للشيعة على طول التاريخ المعاصر وبين مواقف وبرامج الأحزاب الشيعية اليوم. هناك فريق كبير من المثقفين الشيعة لا يشعرون بأي ولاء خاص لإيران، وكذلك هو شريحة من السياسيين الشيعة اليوم، وهناك رجال دين من الشيعة ديمقراطيون، ويطالبون بفصل السياسة عن الدين، ويدينون التدخل الإيراني الجهنمي في العراق. غير أن من الأحزاب الشيعية الحاكمة من يربطون المواقف السياسية بإيران، وكل من دافع خاص، ولاسيما مقتدى الصدر، صنيعة نظام ولاية الفقيه. وبينما يصرح السيد الرئيس تصريحه هذا يصرح السيد العامري مسؤول فيلق بدر بأنه لم يبق للعراقيين غير إيران!!
إن قيام علاقات حسن الجوار وعدم التدخل بين الجارين هو صالح البلدين، فهناك العديد من الروابط التاريخية بينهما ناهيكم عن الجوار الجغرافي.
الأحزاب الشيعية الحاكمة برهنت عيى فشل تام في إدارة الحكم، وكما صرح قبل أيام لصحيفة الحياة مثقف شيعي مشهور بمعارضته لصدام ومساهمته فكريا قبل سقوط ذلك النظام المشؤوم، بأن القيادات الشيعية لا تزال مسوقة بشعور المظلومية، ونزعة أخذ الثأر لما عاناه الشيعة في عهد صدام من تمييز طائفي، وقتل بالجملة، وتهجير، والتنكيل برجال الدين. ولعل هذا أيضا ،وكما قال الكاتب هو كذلك الشعور الغالب لدى الأحزاب الكردستانية، وجمهرة أكراد العراق.
إن القيادات الحاكمة لم تدرك أنها اليوم في السلطة، وأن الشعب كان يأمل بعد سقوط نظام البعث أن تتحسن أحواله، وترد كل حقوقه، ويتمتع بخيرات بلده، في عراق آمن في ظل السلام والوئام، عراق ينتهي فيه الفساد والنهب الماليان والتلاعب بنفط العراق لملأ أرصدة الحكام وكبار الموظفين. أما ما حدث ولحد اليوم فهو أسوأ وضع ممكن، حتى أن فئات من الناس، وحتى بين المتضررين منهم زمن صدام، يجدون أن الوضع الشمولي الدموي هو أقل سوءا، ولا نقول أفضل، وقد صلنا عهدا لا أمن فيه بالمرة ولا خدمات.
بالطبع فإن مسؤولية خاصة عن تدهور الأمن خاصة تقع على القوى المسلحة من القاعديين، والبعثيين الموالين لصدام، وإذ تقوم عدة أطراف إقليمية بتشجيع وتمويل الإرهاب، وتعكير الصفو، والعمل لعرقلة أية خطوة حقيقية نحو الديمقراطية. وبعكس ما يقوله حكام العراق، فإن لنظام ولاية الفقيه الدور الأكبر في هذه المساعي المحمومة فهو يعتبر العراق ورقة لنشر النفوذ، وتصفية الحسابات مع المجتمع الدولي، القلق من مشروع إيران لصنع قنبلة نووية. ونقول هنا، إن المجتمع الدولي، ممثلا في مجلس الأمن، شديد القلق من البرنامج الإيراني، وأصدر عدة عقوبات، في حين أن القيادات الحاكمة، من أحزاب دينية وأطراف كردية، تتصرف وكأن شيئا لا يحدث، رغم أن أية قنبلة نووية إيرانية ستكون، قبل كل شيء، تهديدا للخليج، وسلاح ضغط وابتزاز تجاه العراق.
اإن لحكام الذين يصرحون يوميا عن quot;عدم تدخل إيرانquot; لا يجهلون أن جنوب العراق قد صار تحت نفوذ إيراني قوي وفي كل الميادين. إنهم يواصلون وبلا انقطاع زيارة طهران، وإرسال الوفود الضخمة إلى هناك، بينما فشلت جميع الاتصالات عن منع إيران من تدخلها، وحتى المباحثات الأمريكية ـ الإيرانية لم تسفر عن أية نتيجة إيجابية لصالح العراق.
منذ يومين كنت نتحدث هاتفيا مع صديق قديم في بغداد وكانت زوجته قريبة منه. قالا: quot;هل تعرفون حقا الوضع الذي نعيشه يوميا وكل ساعة؟ إنه الرعب من التحرك خارج البيت، إنه انقطاع الماء والكهرباء، حتى القمامات صارت تزكم الأنوف في بغداد برغم المليارات التي منحت للعراق من أجل إعادة التعمير فتهبا الفساد.quot; قالت زوجته: quot;تصور إننا في هذه اللحظة في ظلام، والماء منعدم سوى قطرات تنزل من أنبوب الماء، وقد وضعت قدرا تحته منذ ساعة لعله يمتلأ!!quot;
أليس من العدالة إذا أن نصيح بألم شديد جدا: quot;يا لفشل القيادات العراقية الحاكمة!!quot;
- آخر تحديث :
التعليقات