ـ2ـ

لن ندخل هنا في أي سجال ذو طابع نظري مع منظري الدولة الوطنية في هذه المرحلة أو حتى كل المراحل السابقة. وسيتضح فهمنا لهذا الأمر في سياق الحدث التاريخي الذي يشغلنا بالدرجة الأولى. في كل هزيمة لسلطة عربية يعقبها محاولات نخبوية لطرح مشاريع تأسيسة جديدة. وفي موضعنا تأخذ الدولة الوطنية كمفهوم قالب في الحقيقة. قالب نحمله ما نشاء من رغباتنا و أوهامنا ومبادئنا السامية. والتي تارة نعبأها في هذا القالب نفسه. ماعدا دولة الوحدة العربية أو الإسلامية هذه لم تطرق كثيرا لأنها لم تنوجد بعد على أرض التاريخ المعاصر. الحديث عموما يدور عن الدول الموجودة في المنطقة. هذه الدولة الموجودة هل يمكن لنا تسميتها الدولة / الأمة؟ ولهذا انطلاقا من دلالات هذا السؤال لابد لنا من الابتعاد عن ربط المفهوم بالأمة العربية. لهذا هل يمكننا الحديث عن أمة أردنية أو أمة لبنانية أو أمة سورية؟ والأمة في هذه الحالة هل هي أمة مبنية على نقاء عرقي أم لغوي أم ديني أم ماذا..؟ أم أن الأمة لا تجد تعريفها إلا بدولتها؟ كما لاتجد الدولة تعريفها إلا بإمتها؟ في تاريخية المفهوم وابنثاقه ودلالات هذا الانبثاق التاريخية عرفت البشرية ما يسمى بالدولة القومية! وهذا أمر لايحتاج إلى كثيرا من التنظير فيه. لهذا نجد أن الدلالة الأكثر عمقا وحضورا في القول عن حق الشعوب في تقرير مصيرها: هو في قيام دولتها القومية! وهذه النقطة لن نقف عندها كثيرا الآن بل سنتحول إلى التساؤل: هل مفهوم الدولة الوطنية مرتبط بوطن / أرض محددة بالجغرافيا السياسية أم بالسياسة الجغرافية؟ تعامل مراكز القوى الاستعمارية مع المنطقة تم بناء على إيجاد آليات من أجل بحث وقيام جغرافيا سياسية محددة منطلقة من سياسات جغرافية هي جزء من استراتيجيات سياسية أعم واشمل وهذا ما نجده في اتفاقيات سايكس بيكو أو حتى وعد بلفور؟ التعامل مع الجغرافيا هي القضية التي تمخضت عنها استراتيجيات الاستعمار التقليدي لمنطقة الشرق الأوسط. مثلا لم تأخذ هذه الاستراتيجيات في حساباتها قيام دولة كردية مثلا في هذه المنطقة؟ على ماذا اعتمدت السياسة الجغرافية هذه؟ هذه الدولة مرشحة لأن تقوم في الشرق الأوسط بناء على معطيات تاريخية تتعلق بنضالات الشعب الكردي من جهة وبمعطيات دولية من جهة أخرى. وقيامها يشير إلى دولة قومية. أما ما استوقفنا هو مصطلح الدولة الوطنية. والذي ربما تفرد قسم من النخب العربية القومية التوجه لصياغة هذا المفهوم بالاعتماد على أنه مكسب يجب الحفاظ عليه من هول ما جرى في العراق و الصومال ومن هول ما يمكن له أن يجري في بلدان أخرى. انطلاقا من هذا يمكننا السؤال الآن: إن الدولة الوطنية هي الدولة التي أنشأتها اتفاقيات سايكس بيكو والتي كانت مرفوضة حتى وقت قريب ولازالت عند النخب القومية العربية والكردية أيضا. في سورية هذه الدولة الوطنية تحيلنا إلى سؤال يتعلق بالبحث عن دلالات أخرى لمفهوم الوطنية غير دلالة أنها الخارطة التي كرستها اتفاقيات سايكس بيكو والمعطى الدولي الذي انتجها في الحقيقة. في سورية مصطلح الوطني دارج لدى السلطة والمعارضة من أقصى يمينها إلى أقصى يسارها بإعلان دمشقها وبجبهة خلاصها وتياراتها الليبرالية. كلها تستخدم نفس المصطلح ولكن كل منهم يحمله دلالاته الذاتية. فهنالك من يربط بشكل آلي بين الوطنية للسلطة والدولة في نفس الحقل وهنالك من يتحدث عن موقف وطني للسلطة من المشاريع الإمبريالية وهنالك من يتحدث عن سلطة لاوطنية. وهنالك من يتحدث عن عدم وجود هذه الدولة الوطنية لأنها ليست دولة مواطنين أحرار في عقد اجتماعي متعارف عليه في قيام الدولة القومية ألمانيا فرنسا أو المتنوعة القوميات ـ بلجيكا سويسرا.. إذن مفهوم الوطنية هو في مؤداه الدلالي الأخير هو مفهوما ذاتيا لدى النخب السورية. النخب الكردية في سورية لا تتحدث عن دولة وطنية لأنها نخب شعب مضهد وبلا أي حق من حقوقه القومية. ولازالت النخب السورية الأخرى تبحث لها عن تأويلات لمفاهيم هي نتاج لمشروع قومي انبثق في ما يعتبر هزيمة عربية أمام دولة إسرائيل.هذا المشروع انبثق مهزوما سلفا لأنه هو جزء من فضاء الهزيمة نفسها ولم يأتي من خارجها ونفس النخب المهزومة هي من صاغت مفاهيم مشروعها القومي هذا وصدرته عبر احتيازها واحتجازها لسلطة السياسية والثقافة والإعلام إلى النخب العربية سواء عبر التعليم في سورية أو عبر مؤسساتها الحزبية والشعبية والنقابية المستولى عليها من قبل سلطة المشروع القومي العربي. وهنالك من يميز بين مفهوم الأمة الذي يمكن أن ينضوي تحته تنوعا إقواميا وهنالك من يربط مفهوم الأمة بالنقاء القومي. وبالتالي لازال الحديث باكرا عن موضوع دولة الأمة ولهذا الدولة القائمة حاليا هي دولة انتقالية نحو دولة الأمة القومية العربية أو الإسلامية عند بعضهم الآخر. لهذا سقط مشروع الدولة / المواطن. وانبثق مفهوم الدولة القطرية عند بعضهم أو الوطنية عند بعضهم الآخر. ثم هنالك بعدا اكتسبه الآن هذا المفهوم والذي هو مفهوم الدولة الوطنية بعدا جاء من مناهضي العولمة على حجة أن العولمة هي إنهاء لسيادة الدول القائمة حاليا، ويتم ربط هذا الأمر بالسياسة الأمريكية من جهة وماحدث في العراق من جهة أخرى. ومن ثم هذه العنف الدموي والفوضى الدموية الخلاقة للسلطات الأقليمية جعلت كثيرا من النخب تقول التالي:
خلينا على الديكتاتورية والفساد أفضل مما جرى في العراق: أي بلغة أكاديمة وطنية لنبقي على الدولة الوطنية ـ والتي لا تمييز واضح بينها وبين السلطة في هذه الدولة الوطنية ـ ولهذا أيضا بعده الهام جدا في صياغة الفعل المعارض في المنطقة، وبغض النظر عن مسؤولية أمريكا وعدم مسؤوليتها إلا أننا أمام احتيال أيديولوجي جديد لبقاء الارتباط بين السلطة القمعية والفاسدة وبين الدولة المهمشة والمهشمة. لماذا هذه الإشكالية ليست موجودة لدى النخب المصرية الآن؟ أو لدى النخب التركية؟ أو لدى النخب المغربية؟ والجواب سيكون لأن أمريكا هنا وليست هناك؟ أقصد هنا في العراق الآن وعلى حدود سورية. قبل أن أنهي القسم الثاني نقول: الحفاظ على الدولة القائمة ليس لأنها دولة وطنية بل لأنها فقط وفقط تمنع قيام حروب أهلية؟ ولكن هذا الأمر لا علاقة له بسلطة هذه الدولة مطلقا لأن مشروع السلطة هو ضد مشروع الدولة...وللحديث صلة.

غسان المفلح