منذ منتصف السبعينات أصبحت الصحف والمجلات العربية الصادرة في البلدان الأوروبية بمتناول أيدينا.. وكانت تلك الصحف تهتم غالبا بوضع الجاليات الأجنبية في بعض البلدان، خصوصا في أوروبا.. وكانت أول موجة نزوح للشباب الكردي نحو بلاد المهجر قد بدأت تحديدا في تلك الفترة من منتصف السبعينات بعد إنهيار ثورة أيلول الكردية التحررية عام 1975 جراء توقيع معاهدة الجزائر الخيانية التي وقعها صدام حسين مع شاه إيران والتي أنهت الثورة الكردية في جبال كردستان فلجأ الكثير من الشباب الكردي الى المنافي.. وكانت الدول الإسكندنافية في مقدمة الدول الأوروبية التي شهدت كثافة في لجوء الكرد إليها وعلى رأسهم مملكة السويد..


كنت أتابع أوضاع بلدان أوروبا بإستمرار وكنت منبهرا بالسويد التي كنت أقرأ عنها الكثير.. عن أحوالها السياسية الهادئة دائما، وكونها من بلدان الحياد في الحروب، وأحوالها الإقتصادية المتقدمة حيث كانت في مقدمة الدول الغنية والمرفهة معيشيا، وعن أحوالها الإجتماعية حيث التطور والتقدم الحضاري هما السمة الإساسية لهذا البلد.


وأكثر ما جلب نظري في هذا البلد هو إحترامها الزائد لحقوق الإنسان، وتوفير الملاذ الآمن لكل شخص مضطهد في العالم، فكانت الملجأ الأكثر أمانا في العالم الغربي، وقبلة أنظار طالبي النجاة من أنظمة الجور والطغيان خصوصا في بلدان الشرق الأوسط.


وبدأت الموجة الثانية من نزوح الأكراد الى المنافي منذ بداية الثمانينات عندما أشعل صدام حسين حربه العبثية ضد إيران، وشملت هذه المرة نزوح الآلاف من الشباب العراقي أيضا الذين تركوا جبهات القتال للنجاة بأنفسهم والهروب من محرقة الحرب الطائشة نحو منافي الأرض، إيمانا منهم بعدم عدالة هذه الحرب المفروضة التي طحنت رؤوس الملايين من الشباب العراقي من دون أي مبرر أو دواعي سوى إشباع غرور طاغية العراق صدام حسين الذي أراد أن ينصب نفسه بطلا اللتحرير القومي في الشرق الأوسط.وكانت السويد هي البلد الأكثر ترحيبا باللاجئين العراقيين إليها..


أما الموجة الثالثة فقد بدأت بداية التسعينات عندما فرض على كردستان حصارين إقتصاديين ظالمين، داخلي من قبل نظام صدام حسين، وخارجي من قبل الأمم المتحدة بسبب غزو العراق للكويت حيث عانى الشعب الكردستاني من فقر وجوع رهيبين، وكانت السويد البلد المرشح لإستقبال اللاجئين الجياع من هذا الشعب الذين فروا من وجه الحصارين ليعيشوا في بلد يحترم حقوق الإنسان.


إستقر عشرات الألوف من العراقيين كردا وعربا وتركمانا الهاربين من قمع وطغيان صدام حسين في هذا البلد، وكانت حكاياتهم وقصصهم التي يروونها لنا عند زيارتهم الى كردستان تبهرنا، وتدفعنا لمحاولة زيارة هذا البلد للوقوف على تجربته الرائدة في مجال حماية حقوق الإنسان التي تعتبرها السويد من أقدس مقدساتها،حيث أنها لا تتوانى حتى عن منح جنسيتها لأولئك اللاجئين وتتعامل معهم كأي مواطن أصيل للبلد، لتضرب بذلك مثالا رائعا في الديمقراطية والإلتزام بمعايير حقوق الإنسان بشكل فاق الكثير من بلدان العالم الحر..


كل هذا الإنبهار والإعجاب بالنموذج السويدي قد زال في مخيلتي هذه الأيام، وأنا أرى الملاذ الآمن لمضطهدي الأرض وهو يتحول الى دولة لا تحترم أي من معايير العدالة وحقوق الإنسان وتتصرف كأنها أحدى جمهوريات الموز في سياساتها، تضيف إليها شيئا من سياسات البلدان الشيوعية في الإتحاد السوفيني السابق، ومضيفة شيئا آخر من سياسات القمع والإرهاب التي ما زالت سائدة في بلداننا العربية على يد الأجهزة الأمنية والمخابراتية؟!...


أصبحت السويد بلدا يعاني منه اللاجئين من القمع والإضطهاد، بعد أن كانت ملاذا لكل أجناس البشر الذين يعانون من الظلم والإضطهاد؟؟!.


صحيح أن هذا البلد يعاني كثيرا من وطأة إزدياد طالبي اللجوء التي وصلت أعدادهم الى حدود غير طبيعية،ولكن لا أعتقد أنه يعجز عن توفير سبل الحياة الكريمة لهؤلاء المضطهدين الذين لجئوا إليها لأنه ما زال بلدا يعيش في بحبوحة إقتصادية ويحتل قائمة الدول الأكثر غنى في العالم.


سمعت قبل أيام عن بعض المواقف والإجراءات من الحكومة السويدية لا أعتقد أنها تشرف أي مسؤول سويدي في بلده الذي كان من البلدان المحترمة جدا في مجال حقوق الإنسان، وهي مواقف لا يليق بهذا البلد رغم أنها قد تكون طبيعية في بلدان العالم الأخرى.


فهناك تضييق كبير على منح حق اللجوء الى طالبيه في السويد، وكأنها إحدى جمهوريات الموز بعدم إحترامها لحقوق الإنسان وعدم الإلتزام بالمواثيق والقوانين الدولية بهذا الشأن.
وهناك مطاردات وملاحقات لللاجئين والتضييق عليهم الى درجة الطرد من العمل لمن لم يحصل على حق اللجوء،وكأن السويد أصبحت إحدى الدول المخابراتية العربية في ملاحقة معارضيها وقمع أصواتهم وحرياتهم الأساسية في العيش الكريم والحصول على فرص العمل.


وسمعت أن شابا كرديا من مدينة زاخو من طالبي اللجوء ويدعى ( بيريفان ملابان ) قد إنتحر في ملعب مدينة يوتوبوري عندما علم بمحاولة السلطات السويدية ترحيله من هناك الى بلده في كردستان رغم حصوله على حق الإقامة المؤقنة لمدة سنة،والأنكى من ذلك أن الحكومة السويدية ووسائلها الإعلامية قد تسترت على هذه الجريمة وكأنها إحدى دول الإتحاد السوفيتي السابق بستارها الحديدي التي كانت تحجب عن العالم ما يجري بداخلها؟؟!!.
والسؤال هو لماذا تتنكر السويد لكل إلتزاماتها بمعايير حقوق الإنسان، وقد كانت للأمس منارة وقلعة لحقوق الإنسان ومضرب المثل في هذا المجال،..


ما هذا السعار المفاجيء بالتضييق على حقوق الآخرين في الوقت الذي ما زالت السويد ملتزمة بالمواثيق والقوانين الدولية الخاصة باللجوء وحقوق الإنسان؟!.
لماذا تتنصل الحكومة السويدية من كل إلتزاماتها بالمعاهدات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، وتحارب اللاجئين إليها، هل أصبحث مثل نظام صدام حسين تمزق معاهداتها الدولية أمام شاشات التلفزيون وتسحقها تحت أقدامها؟؟!!..


بأي معيار ووفق أي تصور تريد الحكومة السويدية إعادة اللاجئين قسرا الى بلدانهم الأصلية التي ما زال الكثير منها تعاني شعوبها من القمع والإضطهاد؟!..
من يقول أن كردستان أصبحت اليوم واحة للديمقراطسية والأمن والإستقرار في العراق والجماعات الإرهابية لا تبعد عنها سوى بضعة أمتار،وهي تترصد وتحاول مرارا تعكير أمنها وإستقرارها، وقد نجحت لحد الآن في تنفيذ العديد من العمليات الإرهابية في مدنها؟!..


ثم أين فرص العمل في كردستان أمام العائدين إليها،وهي تنوء اليوم تحت وطأة من المشاكل الإقتصادية الكبيرة في مقدمتها وجود جيش من العاطلين عن العمل والتضخم المروع وإرتفاع جنوني لإيجارات السكن، وهذه المشاكل لا توفر أدنى مستويات معيشة حرة وكريمة للمواطن الكردي.
ثم كيف يمكن لمن عاش وتربى من أطفال العوائل الكردية اللاجئة في السويد أن يعاود حياته في كردستان التي ما تركها لو كانت أفضل حالا من بلدان اللجوء، ماذا عن دراساتهم، عن أسلوب الحياة التي ألفوها هناك، كيفية إعادة إندماجهم في المجتمع الكردستاني من جديد.


كل هذه الأمور يبدو أن الحكومة السويدية لم تحسب لها حسابا وهي تلاحق اللاجئين وتضيق عليهم وتدفعهم للعودة ولو قسرا الى بلدهم الغارق في الحروب الطائفية والعرقية والصراعات السياسية على عكس ما يروجها المسؤولون العراقيون من أمثال هوشيار زيباري وزير الخارجية أو غيره من المسؤولين الذين يعيشون في بروج عاجية بعيدا عن هموم مواطنيهم، فهم في النهاية غير معنيين بمعاناة اللاجئين الكرد في السويد وما قد يحصل لهم.


يا لها من قسوة ووحشية أن يجرجر إنسان في دولة مثل السويد الى الطائرة ليرمى الى خارجها، وقد كانت هذه الدولة للأمس القريب قلعة الحريات الإنسانية والمنارة الشاخصة في الديمقراطية؟؟!!..

شيرزاد شيخاني

[email protected]

لقراءة مقالات اخرى في ايلاف