ـ3ـ

الخلاف مستعر في ساحتنا السورية على كافة المفاهيم والمعارف والإيديولوجيات، وإن كان هذا طبيعيا فإن من غير الطبيعي أن تبقى هذه المعارك المستعرة تنتج عنفا رمزيا يطال الجميع إما كتابة أو شفاها أو اعتقالا. تنتج عنفا ماديا ورمزيا ولا تنتج حلولا! لماذا كل هذا الزخم من الخطاب المسروق من حضوره ومن رسائله الضمنية والصريحة؟ لماذا يتم لدينا تجدد دائم وضيق في ما يسمى تجديد الخطاب السياسي لكل النخب ـ والتي هي قليلة ـ ويرافقه انحطاط مستمر في الواقع؟ لأن هذه النخب ليس بينها وبين مؤسسات الدولة التي يسميها

الدولة الوطنية من سايكس بيكو إلى المحكمة الدولية 1

الدولة الوطنية من سايكس بيكو إلى المحكمة الدولية 2

بعضا منهم وطنية! أية علاقة تبادلية. النخب إما أن تكتسب حالة من العداء للسلطة أو أن تحولها السلطة إلى موظفين لديها في جهازها الخاص والذي هو في حالتنا السورية ( الدولة الوطنية ) أو تعتقلهم أو تهمشهم وكأنهم في حالة حيادية تجاه ما يدور في مجتمعهم. على طريقة التصنيف البعثي الأمني ( حيادي إيجابي وحيادي سلبي.. حاقد..من أعداء الثورة..الخ
إن دولة الاستقلال التي بنتها سايكس بيكو و نتائجها السياسية كانت تحتضن حزب الشعب والكتلة الوطنية والأخوان المسلمين والقوميين السوريين والشيوعيين والبعثيين لاحقا ومن ثم أتى الناصريون..وكانت تحتضن وسائل إعلام لا تحصى في كل المدن السورية منها الخاص ومنها الحزبي ومنها النقابي ومنها المدني. هل الدولة الوطنية هي هذه الدولة أم هي دولة البعث؟ أم أنها هي نفسها ولكن دخول سلطة خاصة بنظام خاص أعطاها سمات الخلاف مع الدولة الأم. حتى أنها جغرافيا تغيرت بعد أن احتل الجولان. من ينظر إلى مفهوم الدولة الوطنية لدينا يجدها:
تمنع تطاحنات داخلية لمجموعات فسيفسائية لم تنتج متحدها الاجتماعي بعد. هكذا تصور الأمر بعض النخب والذي يؤدي إلى أن السلطة هي من تمنع التطاحن الاجتماعي العنفي والرمزي. وهي من جهة أخرى وأهم هي : سور فقط سيجته سلطة خاصة هذا السور لا يحمي شعبها من كل أنواع الإفقار والتعتيم والقمع والنهب والإفساد. لماذا كل مشاريع هذه الدولة هي خاسرة دوما؟ هذه الدولة بفضل السلطة لم تترك واحدا من نخبها إلا واستقبلته في سجونها. هل هي الدولة الوطنية من اقتحمت حماه؟ أم هي من أشعلت نار الفتنة بين الأكراد والعرب في الجزيرة السورية؟ هل يوجد دولة تقوم بهذا الفعل وتكون طرفا في صراع عنفي بين مكوناتها؟ إن تطور السلطة في سورية منذ أكثر من أربعة عقود جعل الفصل في نظر الكثيرين بينها وبين السلطة التي استولت عليها أمرا صعبا ويكاد يكون مستحيلا خصوصا عند النخب التي تصدر الخوف من التغيير والعداء للخارج.
حرصا منها على المجتمع كما تقول وعلى سيادة هذه الدولة بالذات. التي باتت ملتصقة بالسلطة وملحقة بها إلى درجة أنك من غير المعقول أن تتصور سيناريو لتغيير السلطة دون أن تنهار الدولة. وهذا بالضبط ما أرادته السلطة عمدا أم تطورا طبيعيا لهكذا نوع من السلطات. لنلاحظ الآن أن كثير من النخب المعارضة وغير المعارضة تعتبر أي خلاف بين السلطة وبين العالم الخارجي إقليميا ودوليا هو خلاف بين الدولة السورية وبين هذا العالم. دون التمييز بأن الدول لا تأخذ قرار بالحرب لأنها في الحقيقة هي هيكل للسلم. من يأخذ قرارا بالحرب هي السلطة في أية دولة كانت! ولكن يبقى الفارق بين سلطة انتخبها شعبها وبين سلطة تغتصب دولتها وشعبها معا. السلطة في الدول المعاصرة تستمد جزءا مهما من شرعيتها من الدولة ومؤسساتها المحترفة في كافة ميادين الحياة. وتستند عليها أيضا في نفس الوقت.ولكن الذي حدث عندنا على مر عقود من الاستبداد أصبحت الدولة كأجهزة وكدستور وقوانين حتى تستمد شرعيتها من السلطة بشكل مباشر ـ وأخطر ما في هذا الأمر أنه يتم تغيير دساتير الدول وقوانينها وحتى إلغاء أجهزتها واتباعها لهكذا نوع من السلطات بفعل قرار شفهي! تغيير الدستور في سورية وتعديله مرتين خلال دقائق تم بقرار شفاهي ودون حتى أن يعرف المرء ماهي القوة التي فرضت هذاالأمر لأنها ليست قوة شبحية بل هي قوة مجسدة وشخصانية. كذا الحال في اتباع السلطة القضائية والإعلامية بنفس الطرق والأساليب. أما السلطة التشريعية فهي أصلا محجوزة بشخص واحد فقط. لا مؤسسات ولا هم يحزنون.والشرعية التي تحاول أجهزة الدولة أن تستمدها من هذه السلطة مبنية على معايير لا قانونية فتصبح الدولة هي الملاذ الظاهر لكل ماهو لا قانوني. بينما الدولة الطبيعية والتاريخية المعاصرة لا تعتبر هذا النوع من الممارسات جزءا من مشروعيتها ومن آلياتها التأسيسية. وهذا يقودنا للحديث عن علاقة الدولة المفترضة بمجتمعها! فهي علاقة تمر من أبواب ونوافذ السلطة. حتى تعيين عامل بسيط يحتاج إلى قرار من هذه السلطة المشخصنة. لهذا تجد أن العلاقات داخل أجهزة الدولة هذه باتت هي ذات العلاقات التي تسود في دهاليز السلطة المشخصنة وليس العكس كما هي في الحالة الطبيعية حيث السلطات المنتخبة تقوم بعميلة تكيف وتكيف متبادل بينها وبين أجهزة الدولة وقوانينها. أما في حالتنا فالتكيف هو في اتجاه وحيد فقط من حامل شخصاني سلطوي / بكل خلفياته الأيديولوجية وغيرها / إلى أجهزة الدولة. ولدينا مثال طريف حصل في الآونة الأخيرة :
أصدر القاضي حكما بإخلاء سبيل الكاتب المعتقل ميشيل كيلو. وفقط وبتلفون بسيط بقي ميشيل كيلو في السجن وذهب قرار القاضي المذكور إلى سلة المهملات. في هذه النتف المبعثرة لحالتنا نجد أنه من المهم البحث في الفارق بين شرعية الدولة السورية ـ كما نفضل هذا الاستخدام على استخدام مفهوم ـ الدولة الوطنية ـ ومشروعيتها وبين شرعية السلطة ومشروعها في سورية. يجب فك الارتباط بين المشروعين لأنهما متناقضان. فليقل من يشاء أن السلطة وطنية وهو حر بالطبع في رأيه ولكن علينا تحديد الدلالة لهذا المفهوم. هل يوجد دولة خائنة مثلا؟ الخيانة فعل سلطوي وعدم الخيانة أيضا هو فعل سلطوي. أما الدولة فلا تعبأ منذ لحظتها التأسيسية بهكذا مفاهيم ومصطلحات...وللحديث صلة.

غسان المفلح