أطل علينا مؤخرا أحد دراويش الناصرية من قناة الحرة ليؤكد لنا أنه بعد أن راجع أفكاره في سن السبعين اكتشف أننا لسنا عربا ولا هم يحزنون!!
وقال الرجل بثقة وفخر أنه اكتشف أخيرا وبعد سنوات من البحث عن الذات أننا مصريون - أي والله مصريون- وهو اكتشاف خطير لم نكن نعرفه عن أنفسنا حتى ظهر لنا الدرويش الكبير ليوضح لنا أخيرا أننا مصريون!


ومع تقديرنا لاكتشافات الرجل.. فقد كانت المفاجأة الأكبر حين قال أنه اكتشف أخيرا أنه كان مخدوعا في عبد الناصر الذي لم يكن زعيما ولا هم يحزنون.. وكذلك في ثورة يوليو التي لم تكن ثورة وإنما مجرد انقلاب!!
ونحن بدورنا نشكر الرجل على اكتشافه الذي تأخر ثلاثين عاما..كما نشكره على شجاعته في الاعتراف بأنه كان مخدوعا.. مع أنه لم يحدد بالضبط فاعل الخير الذي أخرجه من الوهم الذي عاش فيه كل هذه السنين؟
لكن من حقنا أن نعتب على الدرويش الناصري تأخره في مراجعة نفسه..فقد تسبب هذا في أنه استمر ثلاثين عاما يخدع بالأعمال الفنية التي يكتبها ملايين المخدوعين فيه من المحيط إلى الخليج!


كما أن تأخره في اللحاق بزملائه الذين سبقوه في مراجعة أنفسهم.. أثار أكثر من علامة استفهام.. بغض النظر عن نجاحه أخيرا في أن يجد علاجا لهذا الوضع في سن السبعين حين قرر أن ينسف حمامه القديم؟!
لا أحد يحجر على حق الرجل في مراجعة نفسه..فهذا حق من حقوق الإنسان..كما أن كثيرا من رموز الفكر والسياسة راجعوا أنفسهم..سواء بعد رحيل عبد الناصر أو سقوط الاتحاد السوفيتي و انهيار الشيوعية أو ذهاب عرفات إلى أوسلو أو اتجاه القذافي لأفريقيا أو سقوط صدام حسين أو دعوة العرب للسلام مقابل التطبيع..


لكن معظم هذه المراجعات لا يمكن للأسف اعتبارها مراجعات حقيقية أو تعديلا في بعض المواقف.. لأنها كانت أقرب للانقلاب المفاجئ على النفس بدون أي مبرر مفهوم!
وهكذا رأينا أحد كبار أدبائنا المدافعين عن ثورة يوليو يصدر بعد وفاة عبد الناصر كتابا يتهمه فيه بالديكتاتورية والاستبداد تحت شعار عودة الوعي.
كما شاهدنا أحد دعاة الماركسية المعادين للصهيونية ينقلب فجأة بسيجاره الكوبي الشهير لأحد أهم منظري عملية السلام في كوبنهاجن.
وفوجئنا بأحد مفكري الماركسية الذي اعتقل بسبب ماركسيته عدة مرات يتحول في عصر البترو دولار إلى مفكر إسلامي كبير يرى أن الإسلام هو الحل.


ووجدنا أحد منظري الحزب الشيوعي الذي ارتبط اسمه بجهاز المخابرات السوفيتية يتحول إلى قط وديع يدافع عن وزيرة القوى العاملة في قضية تصدير الخادمات!
كما فجعنا في رموز ثقافية سنية تحولت إلى أبواق للمذهب الشيعي بعد أن قررت إيران أن تلعب خارج حدودها باعتبارها قوة إقليمية ذات نفوذ.
وأخيرا أطل علينا الدرويش الناصري من قناة الحرة ليقدم لنا آخر اكتشافاته وهي أن المصريين ليسوا عربا ولا هم يحزنون!
ومع احترامنا لحق المبدعين والدراويش في مراجعة أنفسهم..لكن من واجبنا أن نتساءل: هل كانت هذه المراجعات مجرد عودة لما هو صواب..أم أن لها علاقة بما يحدث في عالم السياسة والاقتصاد ودنيا المصالح؟!


وإذا كانت المراجعات جادة وسليمة فلماذا تحدث فجأة بدون أي مقدمات..ولماذا لا يقدم أصحابها أسبابا مفهومة لانقلابهم على أنفسهم ومبادئهم؟!
لو اعترف هؤلاء بالأسباب الحقيقية لمراجعاتهم.. فسوف نحترم حقهم في مراجعة أنفسهم..بل ومراجعة جيرانهم.. لكن من المشكوك فيه أنهم سيعترفون..لأنه لا أحد في عالم المراجعات الفكرية يعترف بالحقيقة إلا تحت التعذيب!
وهكذا سوف نظل نتعامل مع إطلالة الدرويش الناصري من قناة الحرة على أنها مجرد أكل عيش..لأنه انقلب على نفسه فجأة بعد ثلاثين عاما صدع فيها رؤوسنا بآرائه في الناصرية وثورة يوليو.. وكل مراجعة فكرية وأنتم طيبون!!

عبد العزيز محمود*
[email protected]
* كاتب وصحفي من مصر