لاأحد يشك أن سورية تعيش أزمة عميقة مركبة تقترب ضمن اللحظة الراهنة أكثر فأكثر من المجهول، إحدى محدداتها الواضحة هو النظام السوري نفسه بعجزه عن تقديم أداء جديد في ظروف خطيرة وعدم قدرته على إضافة جديداً في الحياة الوطنية والسياسية والمعاشية، وأعلى درجات فعاليته هوإعادة إنتاج نفسه وشكله الفاشل على كافة المستويات، وهذا مقروء من الشعب السوري ومن كافة القوى السياسية في سورية ومن المعارضة السورية والنخبة المثقفة والمفكرين وكل العاملين بالشأن العام، والوضع الداخلي السوري يؤشر عمق الأزمة على مستوى الروابط الإجتماعية والأهلية والوطنية التي تراجعت كلها إلى روابط ماقبل وطنية وماقبل مدنية، لفقدان الدولة وجودها، بمعنى أنها الجامع الإجتماعي والسياسي لكل المواطنين، واستمرار النظام السوري بالقضاء على كافة الروابط الوطنية بين شرائح المجتمع وإلغاء دور الدولة ومؤسساتها لتحل محلها علاقات القوى الأمنية والأجهزة المتعددة والفعاليات الشكلية التي تغطي العجز والفساد الذي أخذ مظاهر كارثية على المجتمع في سورية.
وعليه إن سورية الحالية هي بين النظام الأمني وبين شبكة من العلاقات الداخلية المتخلفة والمرتدة إلى الوراء إلى عصبية العلاقات الطائفية والمذهبية والأصولية بكافة أنواعها المؤمنة والكافرة، وفي غياب الروابط الوطنية وبوجود نظام أقلاوي أرهق الشعب بنفاقه ومتاجرته بالوطنية تصبح سورية حلبة لصراع داخلي همجي متخلف يقوده النظام الأمني،ومخفي تحت العديد من القشور الرقيقة التي تتطاير مع الأعاصير التي تهز سورية والمنطقة، و النظام السوري مابرح يهدم في بنية الدولة الوطنية الحديثة التشكيل والتي لم تعرفها سورية سوى لبضع سنوات تبعت الإستقلال، التف عليها سريعاً النظام وخربها وأرسى نقيضها، العلاقات مادون وطنية، وعليه يصبح الكلام عن وجود دولة وطنية في سورية هو كلام نظري ومغالطة منهجية لتوصيف حالة سورية والشعب السوري.
وإذا كان من المسلم به لدى كافة المراقبون سواءً على مستوى النظام أو على مستوى المجتمع أو على مستوىالمعارضة أن النظام السوري استهلك نفسه ومعه رصيد الدولة والشعب من العلاقات والروابط الإجتماعية ونهب وبدد الأسس المادية للدولة وهي الثروة الوطنية، وأنتج بديلاً هجيناً عنها يعكسه حجم الفساد الذي يضرب أطنابه في طول المجتمع وعرضه،ويلتقي تقريباً كافة الفرقاء حول هذا الموضوع، ويفترقون على طريق معرفة السبب والمسبب ومقاربات الخروج من الأزمة الراهنة وينحصرون في فريقين: الأول وضع يده بشكل صادق وصحيح على الداء ورأى أن الدواء الوحيد الذي ينقذ سورية من عللها هو التغيير الديموقراطي وأطرافه معروفة، والثاني الذي تراجع إلى صف النظام بقراءة اللوحة الإقليمية ويرى إمكانية الإصلاح التدريجي ومع النظام وعبره واطرافه أيضاً معروفة.
والمعروف أن النظام السوري يستمر في خدمة الفوضى الخلاقة على المستوى الإقليمي، بل هو من أبرز منفذيها العمليين الميدانيين على ساحة المنطقة، يترافق مع تزايد وتيرة تشويه صورة بقايا الدولة والمجتمع، بخلط الأوراق الداخلية بالإقليمية بالدولية لتمييع عجزه وتخاذله وتصديره إلى الخارج الإقليمي على شكل فوضى أولاً وإلى الخارج الدولي توسلاً وتخلياً عن مصالح الشعب وكرامته على طريق تجديد الخدمة له على الساحة الإقليمة،الأمر الذي يضمن له استمراره في السلطة ثانياً، يعيد تكريره وإعادة إرجاعه إلى الداخل السوري قمعاً واعتقالاً وإقصاءً، واستمرار إلغاء دور المجتمع والقضاء على ماتبقى من الروابط المدنية والثقافية التي تؤدي إلى تماسك سورية ثالثاً، وحتى دعوات الإصلاح من داخل سورية وبوجود النظام لم تسلم هي الأخرى من قمعه وزج بها في السجون وكمال اللبواني وميشيل كيلو وأنور البني وآخرين هم أبرز ضحايا نفاق النظام ثالثاً.
لكن الغريب ماتشهده ساحة المعارضة السورية الداخلية والخارجية،ومن بعض المفكرين والشعراء والروائيين وعمال العقل هو الرجوع والعزف على نفس نغمة النظام وخطابه وخوفها من التغيير في سورية ومن نتائجه، وكأن الإستبداد أصبح قدراً وراثياً يتحكم بالشعب السوري، وتعزف على وتر خوف النظام من التغيير وتحمله على واقع الشعب على أنه خوف عام من التغيير وتحشر فيه مآسي العراق لتضيع مقاربة التغيير على وقع الصورة الإنسانية المؤلمة الرهيبة التي يعيشها العراق، وتغطيته بنفس غطاء النظام، موحيةً صراحةً لدى الشعب إلى الإستسلام إلى القمع والفساد في ظل استمرار النظام على أساس أنه أهون الشرين، وبالتالي تحويل مطلب التغيير الديموقراطي إلى روزنامة النظام الأمني في سورية وجدولته حسب رغبة النظام ورؤاه وحاجته وظروفه الداخلية والإقليمية والدولية.
أليس غريباً هذا التخلخل الفكري والسياسي والوطني لدى دعاة الخوف والحرص على السلطة quot; الدولة quot; المارقة؟وهم أول العارفين أن في سورية لايوجد دولة ولاشبه دولة بالمعنى الوطني والقانوني والحقوقي، بل توجد عصابة تحت غطاء نظري اسمه الدولة، إذ أين الدولة في ظل حالة الطوارئ؟التي أصبح عمرها نصف قرن وفي ذمتها مئات الآلاف من الشهداء والمعتقلين والمهجرين والملايين المحاربين بلقمة عيشهم الكريمة، وهل الدولة هي مسالخ بشرية وسجون ومواخير للفساد والنهب والسلب؟، وهل الدولة هي الإستيلاء على ثروة البلاد من قبل أقلية لاتحلل ولاتحرم ولاتحسب لكرامة المواطن أي حساب؟، وهل الدولة هي روابط قبلية وطائفية ومذهبية؟، وهل الدولة هي غياب المحاسبة وتغييب الديموقراطية ومحاربتها ليل نهار؟وهل الدولة هي فرداً وعائلةً ومزرعةً وراثيةً وحسب؟وهل الدولة هي غياب القانون والعدل والمساواة وتكافؤ الفرص بين جميع أبناء الشعب؟، وهل الدولة هي في التخلي عن الثوابت الوطنية وقيم السيادة والإستقلال والصمت عن احتلال الأرض الوطنية ومعها مئات الآلاف من المواطنين السوريين؟ وهل اختلطت صورة النظام بصورة الدولة لدى البعض الذي لم يعد يرى وجوداً لسورية سوى باستمرار الإستبداد والفساد؟ وهل أصبح التغيير الديموقراطي معيباً ومخيفاً وفوضوياً إلى هذا الحد؟ والأسئلة كثيرة تلاحق هؤلاء الحريصين على بقاء سورية من خلال بقاء النظام السوري، وكأن قوانين علم الإجتماع السياسي وتطور الدول التاريخي قد فقدت توازناتها في سورية؟ وأصبح النظام السوري هو الفلك الذي لاخيار لنا من الدوران سوى حوله ضعفاء مستسلمين مطبلين مزمرين له، مرددين التسبيح بحمده إلى يوم الدين؟!.
بقي أن نقول: أن مصيبة التغيير الديموقراطي في سورية هو النظام وسلوكه القمعي المهين داخل سورية أولاً و ودوره على الساحة الإقليمية من لبنان إلى فلسطين إلى العراق إلى أماكن أخرى لاتزال على قائمته لتفجير المنطقة بمن فيها ثانياً، إلى البعض الذي يتعامل مع موضوع التغيير في سورية بشكل غوغائي حيناً وطائفي حيناً وذاتي أناني يرى المسألة الوطنية من ذاته ومصلحي في معظم الأحيان ثالثاً، ومتخلخل متهالك فكرياً وسياسياً ووطنياً رابعاً، وموقف غير عقلاني وغير موضوعي وغير منهجي من الخارج خامساً، ونفخ خطورة الأحداث الإقليمية وتضخيمها إلى الحد الذي يسفه كل بوادر وفعل المعارضة الوطنية في التغيير الديموقراطي في سورية سادساً، ونبش البعض في مآسي التاريخ العربي لوصله مع مآسي الحاضر للإيحاء بأن التاريخ العربي هو مأساة سابقة ولاحقة، وأن التغيير هو مأساة درامية لامفر منها على الطريقة العراقية سابعاً، وهروب البعض إلى ثقافة الدول المتحضرة وانبهاره بها،ووصف حضارته وحريته وحقوق الإنسان فيه وتحرر المرأة،وهجر كل صلة بتاريخه ولم يبق على صلة بواقعه وخطورة المرحلة التي يمر فيها وطنه سوى هجاؤه وهذيانه، وحجاب المرأة فيه، وزواج المتعة والمسيار وتسفيه تراثه وحضارته ثامناً، والبصم للنظامquot; العلمانيquot; القمعي بالعشرين على أنه هو حامي البلاد من التطرف الإسلامي تاسعاً، إنها حالة quot;عودة اللاوعيquot; وفقدان الوزن والتوازن واللامعقول لدى عمال العقول، والمصيبة أنها أصبحت سرطاناً يمتد إلى الخلايا المفروض أنها حية في المجتمع السوري عاشراً وأخيراً.
د.نصر حسن
التعليقات