منذ أكثر من ثمانية عقود يخوض الشعب الكردي نضالا مريرا من أجل نيل حقوقه القومية المشروعة.. قاتل في العهدين الملكي والجمهوري منذ تأسيس الدولة العراقية.. عارض جميع الحكومات العنصرية المتعاقبة على حكم العراق التي سخرت كل إمكانيات الدولة للقضاء على الحلم الكردي بالإنعتاق من العبودية ونيل الحرية.. فوصلت السياسات العنصرية الحاقدة في عهد حكم البعث وتحديدا في زمن صدام حسين الى الذروة القصوى، حيث شملت الى جانب القمع الدموي بأفظع أساليبه شراسة، إرتكاب جرائم إبادة شاملة في عمليات الأنفال والقصف الكيمياوي لمدينة حلبجة..هذه الجرائم التي رسخت في الذاكرة الجمعية للشعب الكردي حقدا دفينا على النظام الفاشي، فكانت إنتفاضة ربيع عام 1991الرد الإنتقامي الأمثل من الجماهير المضطهدة على تلك الجرائم الوحشية.


كانت إنتفاضة 91 عفوية تماما فجرها شعب أعزل مجرد من أي سلاح بمواجهة الآلة العسكرية الضخمة لنظام صدام،ولم يطل الوقت حتى تمكنت جماهير كردستان من تحرير مساحات شاسعة تعادل مساحة دولة مثل لبنان ودول أخرى عديدة لتنعم فيها بالحرية.
كانت إنتفاضة سكان مدينة رانية الحدودية إيذانا بإمتداد اللهيب الى بقية مناطق كردستان، فتحررت كردستان برمتها في ظرف أسبوعين فقط من قبضة النظام الفاشي الذي إنهارت قلاعه الواحدة تلو الأخرى فيها، لتنتصر إرادة الشعب المقموع والمضطهد طوال ثمانية عقود.. وإذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر..


لم يكن للأحزاب الثورية الكردية التي عارضت نظام البعث الفاشي في جبال كردستان لأكثر من عشرين عاما، دورا كبيرا في التخطيط لإنتفاضة الشعب التي جاءت عفوية تماما. صحيح أن إذاعة الثورة ساهمت بشكل كبير في إلهاب مشاعر الجماهير وتوجيهها نحو أسقاط الدكتاتورية في كردستان، فقد كانت مشاركة تلك الأحزاب في المعارك التي دارت داخل المدن الكردية المنتفضة رمزية ومحدودة، لكنها ضرورية لرفع معنويات الجماهير المتصدية لأشرس نظام قمعي في العالم،.وبذلك فليس لهذه الأحزاب فضل كبير على الشعب الكردستاني الذي قدم السلطة على طبق من الذهب للأحزاب المؤتلفة حينها في الجبهة الكردستانية التي فرضت الضرورة التاريخية وفراغ السلطة الناشئة في تلك الفترة قيادتها للإقليم المتحرر..
كان التنازل الطوعي للشعب عن قيادة المرحلة لصالح الأحزاب الثورية تقديرا شعبيا لدور تلك الأحزاب في قيادة الحركة التحررية الكردية طوال عقود من الزمن ومقارعتها للأنظمة العنصرية الحاكمة الجاثمة على صدور الشعب الكردستاني.
بعد نجاح الإنتفاضة، وفي رد إنتقامي وحشي سحب النظام الفاشي جميع مؤسسات الدولة من منطقة كردستان وفرض حصارا إقتصاديا ظالما على الشعب الكردي مضافا الى الحصار الدولي الذي فرض على العراق بما فيه كردستان في أعقاب غزو القوات العراقية لدولة الكويت، وكان على الشعب الكردي أن يدفع ثمن الحصار المزدوج.


أصر موظفو الحكومة على التوجه لدوائرهم لمواصلة العمل من دون قبض رواتبهم الشهرية، تطوع المعلمون والمدرسون للذهاب الى مدارسهم لعدم وقف مسيرة التعليم ومن دون أي مقابل أيضا.. عاد أفراد الشرطة الى الإنتشار في شوارع المدن لحماية الأمن الداخلي من دون توقع حصولهم ولوعلى دراهم معدودة..


شد الجميع أحجارا على بطونهم وجادوا بكل شيء لكي يحافظوا على الحرية المتحققة لهم، فواجهوا أصعب ظروف مرت بالشعب الكردستاني طوال تاريخه.


بعد سنة واحدة من الإنتفاضة، خاض الشعب الكردي أول إنتخابات برلمانية حرة في تاريخه السياسي.فتوجهوا شيبا وشبانا، نساء وعواجيز للإدلاء بأصواتهم في تلك الإنتخابات التي فاز فيها الحزبان الديمقراطي الكردستاني بزعامة السيد مسعود بارزاني والإتحاد الوطني برئاسة السيد جلال طالباني بأغلبية الأصوات، فتم تقسيم البرلمان والحكومة بينهما مناصفة في أول تجربة سياسية في تاريخ المنطقة.
بعد سنتين من الإنتخابات خاض الحزبان الحاكمان صراعا داميا من أجل الإستحواذ على الموارد الكمركية رغم كون تلك الموارد بمثابة الرئة التي يتنفس منها الشعب الكردي ليبقى على قيد الحياة، فطحنت الحرب الداخلية رؤوس ما يقرب من أربعة آلاف مواطن على مذبح الصراع العبثي على النفوذ والسلطان.وطالت الحرب لأربع سنوات،إنقسمت خلالها الحكومة الإقليمية التي كانت تمثل أمل الشعب بالإنعتاق والحرية الى شطرين منفصلين، واحدة في السليمانية وأخرى في أربيل..


ثم وضعت الحرب أوزارها تحت رعاية الولايات المتحدة التي وقع الحزبان المتصارعان إتفاقا فيها لوقف القتال، تلتها أحداث وتطورات كبيرة في العراق مع إشتداد أزمة النظام مع المجتمع الدولي، وأصبح الحزبان يعدان العدة للمشاركة في الجهد الأمريكي لإسقاط نظام صدام،فشارك الشعب بدوره في دعم الحزبين الرئيسيين في الحرب الدائرة لإسقاط النظام.


وسقط النظام وعاد الحزبان الى الشعب لمساعدتهما هذه المرة في الإنتخابات البرلمانية في العراق الجديد ليكون للقيادات الكردية حصة لها في حكم البلاد. وهكذا أصبح الكردي رئيسا للجمهورية ونائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للخارجية الى جانب عدد من الوزارات والهيئات الحكومية التي أصبح للحزبان حصص معتبرة فيها سواء في الداخل أو الخارج.


بعد كل هذه التضحيات الجسام التي قدمها الشعب، ماذا جنى من حكم هذين الحزبين الحاكمين؟؟.
مع زوال ظل الدكتاتورية بسقوط نظام صدام وتقسيم حكم العراق على أساس طائفي عرقي، وإرتفاع أسهم القيادة الكردية المتمثلة بالحزبين الرئيسيين في كردستان، نفذ الفساد المالي والإداري الى مفاصل الحزبين والحكومتين الإقليميتين، وإستحوذت قياداتهما على كل الخيرات الوفيرة التي بدأت تتدفق الى كردستان كحصة لها من الدولة!..ولم يبدر من الحزبين أي موقف تجاه هذا الفساد المستشري الذي ينخر جسد الحكومة، اللهم إلا بعض التصريحات الطنانة الرنانة لحملة مرتقبة على الفساد، وهي حملة ما زالت مرتقبة في ظل لهاث وسعار المسؤولين لجني الأموال على حساب معاناة الشعب.
إنفرد الحزبان بكل القرارات السياسية في الإقليم، بعد توقيعهما على العديد من الإتفاقات الإستراتيجية لتشديد قبضتيهما على الحكم في كردستان والإحتفاظ بحصصهما المعتبرة في الحكومة العراقية..


وفي ظل فقدان أي رقابة من الحكومة العراقية الضعيفة بسبب محاصصاتها الطائفية، أصبح الحزبان يتسيدان على الشعب من خلال تسخير البرلمان والحكومة الإقليمية لمصالحهما الحزبية الضيقة!..فلا البرلمان الكردستاني قادر على محاسبة أو مراقبة أداء الحكومة،ولا الحكومة قادرة على محاسبة أي مسؤول حزبي أو حكومي ومساءلته عن الغنى الفاحش الذي أصبح ينعم به فجأة؟!. وعجزت الحكومة الإقليمية عن التقدم ولو بخطوة واحدة للقضاء على الفساد الذي ينهش المواطن الكردستاني بسبيب الأزمات المعيشية المفتعلة، ازمة الوقود وأزمة الكهرباء وأزمة السكن، وكلها أزمات يفتعلها مسؤولو الحكومة لنهب المزيد من الأموال على حساب الشعب!.


وآخر منجزات حكومة الإقليم، هو بعض القرارات التي تستحضر لإصدارها عن قريب، وهي قرارات إعدام لما تبقى من سمعتها داخل الأوساط الشعبية..فقد تحدث الكثير من مسؤولي الحكومة عن قرارات في طريقها الى الصدور تقضي بطرد نسبة 50% من موظفي دوائر الحكومة، وقطع رواتب آلاف المواطنين، وعشرات الآلوف من المتقاعدين، وحرمان الكثير من الموظفين من مخصصاتهم المهنية؟؟!!.
كل هذه الإجراءات تهدف حسب تلك التصريحات الى تخفيف العبء على ميزانية الحكومة التي تدعي أن نسبة 75% من تلك الميزانية تذهب الى رواتب موظفيها؟؟!!.
ولا أدري لماذا وكيف تستكثر حكومة الإقليم هذه الرواتب على مواطنيها في الوقت الذي ينعم فيه بضعة مئات فقط من المحسوبين على الحزبين الحاكمين بكل خيرات البلد؟!.


ماذا يبقى لهذ الشعب الجائع وهو يرى حكومته تستقطع قوت أطفاله لتطعم به الكروش المنتفخة للبطانة الفاسدة؟!.
كيف سيعيش الملايين من أفراد الأسر الكردستانية وهم يحرمون من أي إعانة حكومية لهم؟!. وكيف تجرؤ حكومة تدعي أنها تمثل الشعب على مصادرة اللقمة من أفواه الأطفال بحرمان آبائهم من رواتبهم ووظائفهم؟!.


ما هذه الهسنيريا المفاجئة من حكومة الإقليم التي لا تقيم أي إعتبار لمعاناة الناس في هذا الزمن الأعجف بالنسبة للشعب الذي يمر بأتعس أيام حياته بسبب الغلاء الفاحش المقابل للفقر المدقع الذي يعاني منه إغلبية مواطني الإقليم؟؟!!.
كيف يمكن حرمان البيشمركة الذين قضوا زهرة شبابهم بين جبال كردستان يناضلون بوجه أعتى دكتاتوريات الأرض التي كانت تسعى للقضاء على الشعب الكردي برمته، من راتبه التقاعدي الذي لا يتجاوز في معظم الأحوال 40 دولارا في الشهر؟؟!.في الوقت الذي لا يمكن لأي منصف إنكار حقيقة أن ما ينعم به اليوم الحزبان الحاكمان من الجاه والسلطان، إنما هو بفضل عطاء هؤلاء البيشمركة الذين جادوا بالدماء والأرواح؟؟!!.فهل هذا جزائهم، جزاء سنمار؟؟!!.


كيف تحرم حكومة موظفا كرس سنوات عمره في خدمة مواطنيه في دوائر الدولة، وقد آن أوان راحته بعد العجز والوهن، من راتبه التقاعدي الضئيل الذي يدفعه الى العمل بوظيفة أخرى إضافية لسد رمق عياله؟؟!!.أهذا هو جزاء الشعب المعطاء الذي قدم السلطة على طبق من الذهب للحزبين الحاكمين في كردستان؟؟!!.أهكذا يخدمون الشعب الذي إنتفض في ربيع 1991 وصوت لهما في إنتخابات برلمان الإقليم والبرلمان العراقي الذي ينعم بسببه الحزبان بكل هذه السلطة والخيرات الوفيرة النازلة على رؤوس قياداتهم؟!!.


إن العبء الواقع على ميزانية الحكومة يتحمل مسؤوليته الحزبان الحاكمان، وليس الشعب المعدم الذي يراد له التجرد حتى من كرامته الإنسانية، فالمنافسات الحزبية اللعينة هي التي أوصلت هذا الحشد الكبير من الموظفين الى دوائر الحكومة بالتعيين فيها بالتزكيات الحزبية الصادرة عن الحزبين الحاكمين!.. وإن نسبة 95% من الذين تم تعيينهم في وظائف الحكومة إنما عينوا فيها لشراء ولاءاتهم وليس لكفاءتهم ومهنيتهم، فمن يتحمل مسؤولية ذلك، الشعب، أم الحزبين المتنافسين اللذان كانا يتصارعان لشراء الذمم والأنفس؟!.
لماذا لا تكفي نسبة 17% من ميزانية الدولة العراقية لإدارة حكم ثلاث محافظات، بينما كان صدام حسين يدير الدولة برمتها من 18 محافظة بنسبة 5% فقط من عوائد النفط؟؟!!


الضغوطات المعيشية، الغلاء وإنعدام فرص العمل وإرتفاع إيجارات السكن، تثقل كاهل المواطن الكردستاني الذي ينوء اليوم تحت وطأة تلك الضغوطات، فهل واجب الحكومة أن تحاول التخفيف عن هذه الأعباء المعيشية، أو أن تحاول محاولة أخيرة مصادرة ما تبقى من فتات موائدها من أفواه الشعب؟؟!!.
لقد إنتظر الشيعة أكثر من أربعة عشر قرنا خروج المهدي المنتظر، ولم يظهر لحد الآن، فكم من القرون سينتظر الشعب الكردستاني ظهور مهديه المنتظر( ليملأ الارض عدلا و قسطا بعد أن ملئت ظلما و جورا)؟؟!

شيرزاد شيخاني

[email protected]