كثيرا ما قرأت فى الصحف آراء مختلفة عن المهاجرين العراقيين، معظمها يتحامل على المهاجرين، فمنهم من يصفهم بالهاربين وآخرون بالجبناء والجواسيس، والعملاء، والهاربين، وطالب البعض بعدم السماح لهم بالعودة، وبعض من عادوا أطلقوا عليهم عبارة: العائدون على ظهور الدبابات الأمريكية، وطالبوا باخراجهم من وظائفهم لأنهم لم يشاركوا العراقيين فى معاناتهم فى اثناء الحكم السابق والحالي.

أنا واحد من المهاجرين، وهذه قصتى باختصار ndash; ولكل واحد قصته- وأترك الحكم للقارىء الكريم.

عند بدء الحكم الجديد فى نهاية السبعينات فى ايران، بدأت معارك كلامية بين حكومتي طهران و بغداد، لم تكن فى حقيقتها معركة بين شعبين فكلا الشعبين العراقي والايراني كانا يرزحان تحت حكم دكتاتوري جائر قل مثيله. تطورت الأوضاع بسرعة، وكنت اشاهد اعتقالات وتهجيرات لأناس لا علاقة لهم بالسياسة اعطيت ممتلكاتهم المغتصبة الى المتقدمين فى حزب البعث الحاكم. ثم نشبت الحرب الجنونية دون اي مبالاة من الحكام بما سيحل بالعباد والبلاد، وبدأ كل طرف يضرب الآخر بمنتهى الشدة والقسوة، والكل يعرف النتيجة.

بعد سنة من بدء الحرب تأكدت من انها ستستغرق وقتا طويلا ولن يكون هناك رابح. بدأت استعد وعائلتى الكبيرة للرحيل. حاولت فى البداية الذهاب الى بلد عربي لا تصله يد حكام العراق، فلم أحصل على تأشيرة الا من المغرب، الذى وصلناه بشق الأنفس. أعجبنا البلد وأهله، فأدخلت أولادى المدرسة العراقية فى الرباط. وهناك دخلنا فى معمعة جديدة. كل عراقي نقابله سواء فى المدرسة او المقهى او السوق يسألنا لماذا غادرنا العراق؟وكيف نعيش؟ وهل ان أولادي هاربون من الخدمة العسكرية؟ ثم استلمت رسالة من أخى فى بغداد بأن الأمن اتصلوا بهم وسألوهم عما نفعله فى ليبيا!!!! ورفضوا ان يصدقوا اننا فى المغرب، واستمروا بمضايقة أقربائي وأصدقائى حتى منعوا ابن اختى من السفر لغرض الدراسة وأشروا فى اضبارته: (خاله غادر العراق ولم يعد). اشتدت مضايقتنا فقررت السفر الى بلد غربي نعيش فيه بأطمئنان وسلام، ونجحت فى الحصول على الهجرة الى كندا. وفى كندا فقط شعرت بكيانى و انسانيتى وكرامتى التى سلبت منها فى بلدى.

لم يكن الأمر سهلا، وصادفتنا مشاق عظيمة لنتأقلم فى بلد ومجتمع يختلف كل الاختلاف عن مجتمعنا واصبنا بأمراض نفسية مدمرة نتيجة شوقنا الى بلدنا وأحبابنا، وفكرنا بالعودة، ولكننا كنا ندرك ان عودتنا ستعنى السجن والتعذيب وحتى الاعدام، فصرفنا النظر عن ذلك وبقينا نترقب مجريات الأمور.

ولم تمض عامان على انتهاء الحرب مع ايران حتى دخل الجيش العراقي الى الكويت. ولم اصدق مايجرى وأصابنى الرعب عندما بدأنا نشاهد على شاشة التلفزيون الاستعدادات العسكرية الضخمة بما لا قبل للعراق به حتى ولو آزرته جميع الدول العربية، وتخيلت الخراب والدمار المريع الذى سيحل فى بلدى، ولكن كان لدي خيط من الأمل بان الجيش العراقي سينسحب فى اللحظة الأخيرة، ولكن الحماقة تغلبت وضاع عشرات الألوف من الجنود العراقيين ودمرت البنية التحتية للبلد تدميرا مريعا، ونحن نشاهد ذلك كل ليلة فى التلفزيون والألم يهصنا هصرا، ومرت علينا أيام سوداء لم نذق فيها نوما ولا راحة. ثم جاء دور الحصار وناء بكلكله على العراقيين المجهدين ليزيد فى تعاستهم وشقائهم، وحاولنا اسعاف اهلنا ومعارفنا بما نستطيعه من ارسال النقود والدواء.

وبعد سنوات حصل الهجوم على نيويورك وغيرها من المدن الأمريكية يوم 11/9/2001 وانكمشنا على انفسنا وخيل الينا ان الكل يراقبنا وينظر الينا بعين الشك والريبة. وحل عام 2003 وبدأت السحب القاتمة تتجمع فى الأفق ورفض حاكم العراق كل حل سلمي ولم يستمع لنصح حكام العرب، بل ركب رأسه، وبدأت الغارات الجوية المريعة تدمر ما تبقى فى العراق من بنية تحتية، ودمر الجيش الذى وضع بقيادة اناس جهلاء لا يفقهون شيئا من الأمور العسكرية، ومرة أخرى قتل من جنودنا عشرات الألوف فى معركة غير متكافئة، وفر القائد البطل وترك الباقين يلاقون مصيرهم. بدأت معارك من نوع جديد فى البلد، معارك سياسية بأغطية طائفية، وبدأ النهب والسلب ممن هم داخل الحكم وخارجه. عدت فى نيسان 2004 لزيارة بلدى الذى فارقته 22 عاما، وما ذا وجدت؟ بعد دخولنا العراق من الأردن طالعتنا أبراج الكهرباء المدمرة حيث سحبها اللصوص وجردوها من الأسلاك النحاسية، واخترقنا مدينة الشعلة وهالنى مارأيت من فقر مدقع وقذارة وأوساخ لا توصف. وصلنا بغداد فرأينا الأبنية على جوانب الشوارع قد غطي معظمها بلافتات سوداء منها تنعى الموتى ومنها بمناسبة عاشوراء. ورأينا الساحات التى كانت تقف فيها تماثيل الطاغية قد ازيلت وحلت محلها صور لمعممين ملتحين باللحى الكثة. ترى هل حقيقة نحن فى العراق؟ كلا كلا انها ليست بغدادنا الحبيبة التى عرفناها ولا عراقنا الحبيب الذى غادرناه قبل ربع قرن. ولم استطع البقاء هناك أكثر من ثلاثة أسابيع و قفلت راجعا مخترقا الصحراء لأواجه مرة اخرى المعاملة السيئة فى نقطة الحدود وطلب الرشوة بصورة علنية. عبرت الحدود الى الأردن وانا لا أصدق بالنجاة.

وأخذت الأوضاع تزداد سوءا يوما بعد يوم وبدأ تدمير المساجد والقتل على الهوية ولم يعد يردع الفعلة لا دين ولا ذمة ولا ضمير. الأمل بالتحسن يتضاءل، ويحل محله اليأ س. لا تحسدوننا على عيشنا فى بلاد الغربة، فلكل شيء ثمن، وشعورنا لا يختلف كثيرا عن شعور البلبل فى القفص الذهبي، كل شيء متوفر لديه ولكنه يتوق الى موطنه الذى نشأ فيه وتنشق أول نسمة. نعيش بأمل العودة ولكنه أمل يتضائل مع الأيام.

عاطف العزي