يبدو أن الزمرة المتحكمة برقاب الشعب السوري العزيز على اختلاف انتماءاته وتوجهاته، مصممة على المضي في استخدام خطتها القاضية بتفكيك المجتمع، بل المجتمعات، إذا أخذنا بعين الاعتبار دورها الإقليمي في كل من العراق ولبنان وفلسطين؛ وتأليب مكوناتها بعضها على بعض بصرف النظر عن الهوية والتوجه، طالما أن الصراعات الداخلية بذاتها تضعف الناس، وتبعدهم عن إمكانية التفاهم والاتفاق على القواسم المشتركة في مواجهة سلطة مكشوفة هزيلة أمام الخارج، قوية شبحية على الشعب الذي من المفروض أنها منه تستمد القوة والمشروعية؛ سلطة تخلت عن آخر ما تبقى من أوراق الستر الوطني، لكنها ما زالت تخوّن الوطنيين، وتحكم عليهم بالسنين الطوال، وتسلّمهم إلى المصير المجهول في غياهب السجون. سلطة تحتضن مركز إحياء السنة وتباركه في دمشق؛ في حين أنها تسعى في الوقت عينه لإغواء الناس ودفعهم، رغبة أو عنوة نحو تغيير المذهب، وبناء الحسينيات( هذا مع احترامنا لكل المذاهب والطوائف الدينية الإسلامية والمسيحية وغيرها) في المنطقة الشرقية، ضمن إطار لعبة تتقطّر كيداً، وتفوح حقداً.


سلطة أسست لاستقطاب طائفي بغيض حاد في لبنان؛ أرغمت الطوائف على التزام مسار الطائفيين من منتسبيها، هؤلاء الذين تنتهي خطوط هواتفهم الحارة، وأجهزة اتصالاتهم اللاسلكية الخاصة جداً في دمشق؛ ويمتد بعضها عبرها إلى طهران. سلطة تجبر الشيعة على الإنضواء تحت راية الحليف حزب الله؛ ولكنها تختلق في الوقت عينه أكثر الجماعات تطرفاً بين السنة من دون غيرهم، وتروجها تحت أسماء وهمية ما أنزل الله بها من سلطان، مثل جند الإسلام، وفتح الإسلام، وربما رياح أو عاصفة الإسلام، والجبهة الشعبية - القيادة الإسلامية، وغيرها من الأسماء التي باتت وبالاً على الإسلام والمسلمين، تسيء إليه وإليهم، وتوحد بينه وبين مصطلحات التوحش والكراهية والحقد والنفاق والظلامية بكل معانيها.


وقائمة أفعال الزمرة المتسلطة في سورية تطول، لاسيما إذا ما انتقلنا إلى الحالتين العراقية والفلسطينية، إلا أننا سندع ذلك إلى مناسبات قادمة، وذلك لإفساح المجال هنا أمام تناول ما يجري راهناً في منطقة الجزيرة العليا التي تعد جزءاً هاماً من كردستان سورية، وهي تضم أغلبية كردية، إلى جانب العرب والسريان والأرمن والچاچان، وربما غيرهم من المكونات السورية الأخرى...فالمنطقة المعنية كانت وما زالت هدفاً لجملة سياسات عنصرية، تمحورت حول رغبة أصحاب العقول القاصرة في تغيير الطابع القومي للمنطقة،وذلك عبر اعتماد ركائز ثلاث تتشخص في: التعريب، والحد من الحجم الكردي البشري عن طريق الإحصاء الاستثنائي المثير للاستهجان، وسلب الأراضي بغرض تكوين حزام من المستوطنات الهدف منها زيادة العنصر العربي في المنطقة، وذلك من أجل التحسب لاحتمالات قادمة، إلى جانب الفصل بين كرد الجنوب وكرد الشمال في إطار لعبة تنسيق أمنية بين الجانبين السوري والتركي. وقد تقاطعت هذه الرغبة مع السياسات الإيقاعية التي تتخذها الزمرة الحاكمة في سورية أداة لخلخة المجتمع، وترسيخ بذورالفرقة بين أوصاله، ليتسنى لها التحكم بمصائر الجميع من خلال الإمساك بكافة الخيوط، وإرغام الكل بمختلف الوسائل على السير ضمن المدارات المحددة.


كما تخضع منطقة الجزيرة، إلى جانب ذلك، لسياسة إهمال منهجية، الغرض منها إفقار الناس، وإرهاقهم بالمتاعب، وتركهم فريسة لهواجس القلق وعدم الاستقرار، والخوف من المجهول القادم. وفي المقابل تتعرض المنطقة ذاتها لنهب عام، يشمل المجتمع والأفراد؛ نهب أبطاله الأجهزة الأمنية والبيروقراطية المتسلطة ويتخذ كل الأشكال مثل: التشارك والسرقات والرشاوى والهدر، وإلى ما هنالك من الأحابيل التي تبتكرها كل يوم ذهنية المهيمنين الذين لا يعرفون حداً للاكتفاء.


وبالإضافة إلى كل ما تقدم، تنتهج السياسة الرسمية أسلوب ضرب المكوّنات القومية في المنطقة بعضها ببعض، وهذا ما يتشخص في إقدام المسؤولين في المحافظة على محاولة إيجاد الفرقة بين كرد المحافظة وعربها وسرياناها ا؛ وهم يعتمدون في ذلك أسلوب دغدغة المشاعر اللاعقلانية، وإثارة المخاوف اللاواقعية، وتكوين الأحقاد.


وفي سياق هذا التوجه تأتي الخطوة الأخيرة القاضية بإبرام العقود مع 150 أسرة عربية ستجلبها السلطة من الجزيرة السفلى، وربما من مناطق أخرى تقع خارج الحدود الإدارية لمحافظة الحسكة بغية اسكناها في المنطقة، وذلك تمهيداً لاستكمال مشروع الحزام السيئ الصيت الذي كان وما زال المنغّص الأكبر بالنسبة إلى العلاقات العربية -الكردية في المنطقة. واللافت في هذا المجال أن العديد من فصائل وشخصيات المعارضة السورية لا تولي اهتماماً لهذه المسألة؛ بل على النقيض من ذلك يلاحظ أنها - انطلاقاً من توجهاتها القوموية القصيرة المدى- توافق على المشروع، وتسعى إلى تسويغه عبر مختلف الحجج، الأمر الذي يضعف من مصداقيتها، ويقطع الطريق أمام تمتين أواصر الثقة معها؛ وكل ذلك يصادر بطبيعة الحال على إمكانيات العمل المشترك.


ومن باب التداعي، أذكر هنا مناقشة جرت بيني وبين أحدهم ممن يقدمون أنفسهم على أنهم يعارضون النظام السياسي القائم في سورية، ويدافعون عن حقوق المواطنين، والإنسان بصفة عامة، بصرف النظر عن الخلفيات القومية والدينية وغيرها.. فقد جمعتني وإياه جلسة عقدت في ضاحية من ضواحي ستوكهولم قبل سنوات، وكانت الجلسة تضم مجموعة من المعارضين السوريين من مختلف المكوّنات السورية؛ وقد تمثّل الوجود الكردي حينذاك في زميل آخر - حي يرزق- وكاتب هذه السطور. وقد تناولت المناقشات فيما بيننا مسائل عدة؛ ولكن ما استوقفني في طرح الشخص المعني هنا بالنسبة إلى الوضع الكردي في سورية، هو تمترسه خلف عبارات الكياسة والمجاملة، والخلط والتعميمات الخاوية؛ والتزامه الخلط والتضليل بغية التمييع والمواربة. وما أود أن أورده هنا بخصوص الموضوع الذي نحن بصدده هو ما ذهب إليه - بما معناه- قائلاً: وما المانع من منح الأراضي السورية للمواطنين السوريين المتضررين، فلكل مواطن الحق في الحصول على التعويض من الدولة، مقابل الضرر الذي يتعرض له نتيجة المشاريع العامة.


كم كنت أتمنى في تلك اللحظة أن يقوم بالرد على المذكور أحد الحاضرين من غير الكرد، الأمر الذي لم يحدث بكل أسف؛ لذلك وجدت أن الواجب يلزمني بالرد، وهكذا فعلت. قلت لصاحبي quot;المعارض بمقادير محسوبةquot;: إنني أوافقك الرأي تماماً على أن المواطنين سواسية. ومن حق الكل الحصول على التعويض المناسب العادل مقابل الضرر الذي تعرضوا له؛ ولكن إذا كانت الدولة ذاتها تحارب قسماً من مواطنيها بفعل انتمائهم القومي المختلف، تسعى إلى إلغاء خصوصيتهم، تهمل مناطقهم وتنهبها، تأخذ منهم الجنسية من دون وجه حق، وتمنعها عنهم من دون وجه حق. تمارس التعريب بحقهم، تبعدهم بناء على سياسة عنصرية عن السلطات الثلاث، كما تحرم عليهم الوظائف والبعثات الدراسية، وتسلبهم الأراضي وتقوم بمنحها لمواطنين آخرين تأتي بهم من مناطق أخرى ضمن إطار خطة واضحة مكشوفة لتغيير الطابع القومي في المنطقة؛ إننا إذا أخذنا كل ذلك في حسابنا، فإن الأمور ستتسم بطابع آخر بعيد عن الصورة الوردية المجردة التي تحاول أن تسوقها لنا هنا.


ماذا سيكون موقفك فيما لو قامت سلطة مفترضة ذات توجه كردي بسلب الأراضي من الفلاحين العرب في منطقة الحوران، وذلك لتوطين فلاحين كرد فيها تعرضت أراضيهم للغمر والاستيلاء لأسباب عامة، إلى جانب الرغبة في تحوير الطابع القومي للمنطقة؟ هل ستقبل بالأمر، خاصة إذا عرفت أن الخطوة تدخل في عداد مخطط شامل، يستهدف تكريد المنطقة؟


إن ما نواجهه هنا يتجسد في سياسة شوفينية عنصرية، لا تخدم المصلحة الوطنية السورية، علينا أن نرفضها، ونرفض نتائجها، لنتمكن من التفاهم والتواصل والعمل المشترك.


وتوقف النقاش بيننا عند هذا الحد، بعد أن أدرك كل طرف أن عبارات الإطراء والدبلوماسية لن تتمكن من تجاوز إيلامية الواقع المشخص الذي تستوجب مواجهته الجرأة والصدق الوطنيين؛ هذا إذا كنا نرغب في بناء أواصر الثقة بين كل مكوّنات النسيج الوطني السوري، والتمهيد لعمل وطني شامل. وبهذه المناسبة أضع هذا الموضوع أمام الأخوة في المعارضة السورية للتأمل والتمعن واتخاذ اللازم.


أما بالنسبة لنا نحن معشر الكرد فعلينا أن نستفيد من تجاربنا السالفة، وندرك تمام الإدراك أن قضية الأرض مصيرية بموجب سائر المقاييس، قضية لا تقزّم بالبيانات المناسباتية، ولاتحل بالوعود الخاوية؛ بل لا بد من التحرك وفق خطة متكاملة على مختلف الصعد؛ خطة تجمع بين العمل السياسي والشعبي والأكاديمي التوثيقي والحقوقي والإعلامي. ولكن الأهم من هذا وذاك هو أن يتنحى المعرقل جانباً أو يُستبعد؛ وأن يقرر العاجز بنفسه ترك زمام المبادرة لأصحاب الشأن. فالفلاح الكردي الذي اعتبر دائماً أرضه في مقام عرضه؛ ولم يتمكّن الغزاة على امتداد العصور من ضرب العلاقة الحميمة بينه وبني معشوقته - الأرض، قادر على حمايتها مجدداً، خاصة وأنه محاط هذه المرة بالآلاف المؤلفة من الشباب المثقف الواعي من أبنائه وبناته، إخوته وأخواته ممن يدركون أن الدنيا قد تغيّرت، وأن الصلاحيات المطلقة لم تعد ممنوحة للمستبدين الذين كانوا فيما مضى يفترسون الضحية، ويكبتون أنفاسها في الوقت ذاته.

[email protected]