لشيوخ عشائر العراق تأريخ حافل لا يمكن فصله عن تأريخ العراق. كانوا يشكلون شوكة فى جنب الدولة العثمانية التى لم تتمكن من السيطرة الكلية عليهم. البعض منهم كانوا اقطاعيين ويملكون مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية ويعيشون فى بحبوحة وبذخ. الفلاحون فى أراضيهم كانوا من أبناء العشيرة ويدينون بالولاء المطلق للشيخ ولا يناقشون أوامره. القلة منهم كانوا يعاملون أتباعهم معاملة الوالد لولده. أما الأغلبية الساحقة فكانوا يعاملونهم معاملة العبيد. كانوا يعملون لقاء وجبات الطعام لهم ولعوائلهم، وأغلبها مما تنتجه الأرض التى يعملون عليها. ويتكرم الشيخ بمنح رداء رخيصا (دشداشة) لكل منهم فى الشتاء وأخرى فى الصيف. الرجال والنساء والشبان والأطفال القادرين كلهم يعملون لحساب الشيخ ويندر بينهم من يحتج على ذلك. وفى العهد الملكي وانتشارالمذياع (الراديو) بدأ بعض شبانهم يتململون، وتجرأ البعض الآخر الى ترك العشيرة الى المدينة القريبة للحصول على أي عمل فيها يمكن ان يرفع من مستواهم ويرسلون أولادهم الى المدارس. وبطبيعة الحال كانت بغداد الهدف الأول للهجرة، فسكنوا فى ضواحيها الشرقية فى صرائف حقيرة سكنوها سوية مع حيواناتهم.

قامت ثورة الرابع عشر من تموز 1958 المجيدة وسن قانون الاصلاح الزراعي الذى لم يخلو من أخطاء أضرت بالانتاج الزراعي الذى انخفض بحدة، ولكن التغيير الأكبر حدث للفلاح وعائلته، فقد حصل على عمل أقل ارهاقا من عمله السابق وبدأ يرسل أطفاله للمدرسة، ومنهم من كون عملا خاصا به، أو حصل على وظيفة حكومية. كبر الأطفال ومنهم من دخل الكليات وتخرج فيها وحصل على وظائف مهمة فى الدولة. نترك هؤلاء الفلاحين المحظوظين ونعود الى من بقي تحت رحمة الشيوخ.

اضطر الشيوخ ان يتبعوا التغيير الحاصل فأخذوا يحسنون علاقتهم مع الفلاحين، وهؤلاء وكما كان آباؤهم وأجدادهم، استمروا على الولاء المطلق للشيخ، الذى بدأت سيطرته بالتدهور نتيجة التطور الاجتماعي الحاصل. فى الانتخابات التى كانت تجرى فى العهد الملكي والعهود التى تلته، كان الفلاحون يتبعون أوامر الشيخ فيمن ينتخبون، وعلى الأغلب يكون المرشح هو الشيخ نفسه أو أحد أقاربه، أو شيخا آخر اذا كانت العشيرة صغيرة. ولما كان أفراد العشائر معظمهم أميون جهلاء، ويندر من بين الشيوخ من أكمل الدراسة الجامعية، فقد غص البرلمان العراقى بالأميين والجهلة، وكان يطلق عليهم اسم (موافج) وتعنى انه موافق ولو انه لم يكن فاهما لما يجرى فى المجلس.

فى بداية حكم البعثيين كانت خطتهم القضاء على النظام الأقطاعي الذى كان يهدد سلطانهم المطلق، ونجحوا بذلك الى حد بعيد، حتى كادت سلطة الشيوخ ان تنعدم. ولكن الأمور تغيرت بعد فشل غزو الكويت، وقرر صدام ان يكسبهم الى جانبه، فانهالت عليهم النقود بغير حساب، حتى ان الكثير منهم حصل على سيارات (مارسيدس) بعدما كان يتعسر على بعضهم شراء حمار. واصيب الشيوخ بالذهول بعد ان فر القائد الذى لا يقهر أمام جنده، ولم يستطيعوا عمل شيء ضد القوات الأجنبية. أخذ البعض منهم يلجأ الى المعممين، والبعض الآخر يلجأ الى فلول البعثيين، وآخرين التمسوا العون من بعض حكام العرب الذين زودوهم بالمال والسلاح والانتحاريين. أخذ العراق بالتدهور السريع فى كل المجالات وأصابه من المحن أسوأ بكثير من تلك التى أصابته نتيجة احتلال المغول.

الأمريكان حيارى مذهولون لا يعرفون كيف يعالجون كل هذه المصاعب التى لم تكن تخطر لهم على بال. وأخيرا قرروا أن يفعلوا ما فعل الانكليز عندما أخمدوا ثورة العشرين، فأرسلوا الى الشيوخ من يوزع عليهم الدولارات، فبدأو بالانضمام اليهم. شعر الجانب الآخر بما يجرى فبدأت أموال البعثيين المهربة وتبرعات دول الخليج تصل الى الشيوخ. وبدأ المزاد. المصيبة الكبرى ان نسبة كبيرة من هؤلاء الشيوخ لا يدينون بالولاء لأحد، فهم يتبعون من يدفع أكثر، حتى ولو كان الشيطان نفسه. ولا أملك غير أن أقول: كان الله فى عونك يا بلدى الحبيب المعذب.

عاطف أحمد العزي