ـ غزوات لندن ــ1ـ

منذ أن حطت رحى الحرب الباردة وعاد العالم ليلتئم رأسماليا كونيا، ونحن نشاهد ما تبقى من قوى هذه الحرب وما تبقى فيها من علاقات سياسية واقتصادية وسلطوية وبؤر توتر لم تحل حتى الآن وهي من مخلفات هذه الحرب، وهذا طبيعي لأن أي حرب تخلف وراءها تبعات على كافة الصعد فمابالنا عندما نتحدث عن حرب على مستوى كوني كانت تقسم العالم إلى قسمين. يحضرني هنا الانقلاب الذي جرى في موسكو في آب 1990 وتم أحباطه من قبل التيار الإصلاحي الشعبي، هذا الانقلاب الذي يعبر أشد تعبيرا عن قوى ترفض البدء في مرحلة جديدة في العالم. وهذه القوى لا تقتصر فقط على القوى التي يمكن أن نقول عنها أنها هزمت ! بل تطال بعضا من قوى تحسب على الاتجاه الرابح في تلك الحرب. فالغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية قد أقامت على مدار أربعة عقود شبكة دولية من المصالح والنظم والعلاقات السياسية والاقتصادية والاستخباراتية الدولية والإقليمية من أجل تحقيق النصر على المعسكر الشرقي. وهذا ما تم بعد كل هذه الجهود ! ولكن الذي جرى وكان الكثير من النخب قد نوه إلى هذا الموضوع في الشرق والغرب بأن نهاية الحرب الباردة لم تحن بعد بالمعنى العملي للعبارة ! أليس الصراع العربي الإسرائيلي هو من بقايا هذه الحرب بعد أن تأسس جديا بعد الحرب العالمية الثانية وفقا لمعادلات الحرب الباردة ومتطلباتها وحدوث ما سمي بالنكبة 1948. وهذا الصراع رغم الخطوات التي تحققت فيه لازالت لم تحل فيه القضية الأساسية وهي القضية الفلسطينية : قضية شعب مشرد وبلا هوية ولا حقوق وقضية شعب يعيش تحت احتلالين الاحتلال الإسرائيلي والاحتلال الإقليمي المزروع عبر الفلسطينين أنفسهم. وهذا كله من بقايا الحرب الباردة ! أليست السياسة الإسرائيلية في غالبها الآن لازالت تفكر بعقلية الحرب الباردة؟ وهذا ليس موضوعنا الآن. إن هذه الشبكة من السلطات التي كانت تسمى فيما مضى عالم ثالثية قامت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب البادرة ! وفرخت مجتمعات وعلائق سياسية وثقافية واجتماعية على مقاسها ومقاس حيثيات ومتطلبات هذه الحرب وليس ثورة الخميني إلا تعبيرا عن جزء من هذا المنطق الذي استفاد من دعم أجواء الحرب الباردة. إن الإسلام السياسي والذي هو وليد لتمازج بين عدة عوامل أهمها : اتساع رقعة التعليم وانتشار الإسلام العالم ليحل بديلا عن الإسلام التقليدي المختلط بالعادات والتقاليد. ومن جهة أخرى هو أحد الردود الطبيعية على ما سمي في لحظة ما صدمة الحداثة والتهميش السياسي والمدني لكتلة الإسلام الشعبي، وصدمة الحداثة التي اخترقت هذه المجتمعات وأخرجتها من سباتها التقليدي. وتنازع هذا الإستيقاظ موازين قوى سياسية دولية ومحلية وتبعثر الملاط التقليدي للمجتمعات الإسلامية. كما تبعثرت السلطات بين الحداثة من جهة ومجمل العلاقات الدولية ومتطلباتها من جهة أخرى. فصار لدينا سلطات يسارية وقومية ومحافظة ومنها من يدعي أنه سلطة إسلامية..الخ القائمة تطول. لهذا لم تكن الجهازيات السياسية مفصولة عن توضع القوى على الصعيد العالمي. لم تكن مفصولة لا سياسيا ولااقتصاديا ولا ثقافيا. ولهذا يصبح السؤال مشروعا أين كان يتموضع الإسلام السياسي في لوحة الصراع هذه؟ لم يكن هذا الإسلام السياسي قادرا على أن يجد نفسه في انضواءات المعسكر الشرقي / الملحد / بل وجد نفسه متموضعا وبمساعدات هائلة عند الطرف الغربي وحلفاءه في العالم الإسلامي من السلطات القائمة. فأسس قاعدته الأيديولوجية والسياسية والمادية في تلك الاثناء وبناءا على تحالفات تصب في النهاية في مواجهة مباشرة مع التيارات اليسارية ومع المعسكر الشرقي. وجاءت الذروة في احتلال السوفييت لأفغانستان. كبلد مسلم استطاعت التحالفات الغربية تحفيز السلطات في البلدان الإسلامية عموما والعربية خصوصا لكي تعتبر أن معركتها ضد السوفييت في أفغانستان هي معركة الإسلام نفسه. من خارج هذا المنظور لا يمكننا فهم ظاهرة الإسلام السياسي بشقيه المعتدل والإرهابي. بالطبع لكل إسلام سياسي خصوصيته المناطقية والتعبوية ولكنه لم يكن خارج إطار العلاقات الدولية وإنه لم ينبثق من خارجها على طريقة الحديث عن ( الصحوة الإسلامية ) هذه الصحوة التي سوقها الغرب في فترة ما تحت هذا العنوان ليستفز مشاعر المسلمين نحو الهدف الأكثر أولوية وهو الانتصار في الحرب الباردة وتحفيز آليات تحقيق النصر لاعلاقة له بنظرية المؤامرة وتحليلاتها وسنعود إلى هذا الموضوع. ولكن الذي حدث أن مجمل هذا الإسلام السياسي بات الآن عبئا على العلاقات الدولية. مع التمييز في داخله بين ما يسمى تيارات معتدلة وبين تيارات متشددة وجهادية..الخ
السؤال الذي يهرب منه الغرب : هل من مصلحة سلطات المنطقة إنهاء ظاهرة الإسلام السياسي العنفي وكيف؟ وهذه ليست تبرئة أو إدانة لأحد بل هو محاولة لمقاربة هذه الظاهرة التي تحدث عنها مطولا المفكر محمد أركون قبل أن تبدأ أصلا في تحليله لظاهرة علمنة المجتمعات الإسلامية. انخراط الإسلام في العملية السياسية هو نتاج علاقات سلطة دولية ومحلية. وليس صحوة من خارج مجمل تلك العلاقات.. وهذا ما سنحاول أن نتناوله في مقاربات متتابعة.

غسان المفلح