منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى وانتهاء بريطانيا والحلفاء من تخطيط حدود العراق فقد بقيت كما هى عليه عدا شط العرب والمنطقة المحايدة والحدود الكويتية. وكما هو معروف فان تركيا تحدنا من الشمال وايران من الشرق، وهما دولتان عملاقتان بالنسبة الى العراق من ناحيتي المساحة والنفوس. اما الجنوب والغرب فتحاددنا أربعة دول عربية لا تعادل نفوسها اي من دولتي ايران او تركيا. وفيما عدا الكويت فان الصحراء الشاسعة تفصل ما بين العراق وباقى الدول العربية. وهذا أهم سبب فى ان تكون تجارة العراق مع ايران وتركيا أكبر بكثير من تجارته مع الدول العربية المجاورة، أضافة الى العتبات المقدسة التى تجذب أعدادا هائلة من الزوار من كلا البلدين.

حكم الفرس العراق فترتين متباعدتين مجموعهما 41 عاما، والأتراك العثمانيون حكموه 336 عاما. وكلما دخل الفرس كانوا ينكلون بالسنة، والعثمانيون ينكلون بالشيعة (آسف ان أذكر سنة وشيعة ولكن للضرورة أحكامها، فأرجوا المعذرة). وأخيرا فى عام 1917 دخل البريطانيون بغداد وأبعدوا الشيعة عن الحكم لأسباب منها اعلان العلماء الشيعة الجهاد الى جانب الأتراك السنة لأن الدولة العثمانية كانت مسلمة، وقربوا السنة واختاروا للعراق ملكا سنيا وافق عليه الجميع. الملك فيصل الأول بذل قصارى جهده لانهاء الطائفية والتف حوله وجهاء الطرفين، وحصل ثلاثة من الشيعة على منصب رئاسة الوزراء لفترات قصيرة فى العهد الملكي.

كان العراق مهددا بهجمات الوهابيين عليه من نجد، وفعلوا ذلك فى عام 1801 واجتاحوا كربلاء وقتلوا الآلاف من سكانها ونهبوا ضريح الحسين وأخيه العباس (ع) وعادوا التى نجد محملين بثروات لا تصدقها العقول، وكانت حجتهم ان تشييد الأضرحة والمنائر ليست اسلامية وان الشيعة رافضة وكفرة يحل قتلهم كما أفتى لهم سابقا شيخهم ابن تيمية. ولم تكف العشائر النجدية عن هجماتها على العشائر العراقية وآخرها كان فى عام 1928. ولم تكن العلاقة بين العرش الهاشمي فى العراق والعرش السعودي على ما يرام، فلم يكن الهاشميون لينسوا للسعوديين اجتياحهم للحجاز والقضاء على ملكهم هناك، والسعوديون ينظرون بريبة الى ملكي العراق والأردن.

فى عام 1955 رأى نورى السعيد رئيس وزراء العراق الأسبق، ان من مصلحة العراق ان يعقد معاهدة بين العراق وتركيا، سميت فيما بعد باسم (حلف بغداد) وانضمت اليها كل من ايران وباكستان وبريطانيا فى السنة الأولى وتبعتهما الولايات المتحدة الأمريكية فيما بعد. ولم تنضم اليها أي من الدول العربية بسبب معارضة جمال عبد الناصر لها (نورى السعيد قال فيما بعد: جمال لم ينضم لأن المعاهدة لم تسمى حلف القاهرة)، وانسحب العراق منها على اثر ثورة 1958. كان نورى السعيد يردد دائما بان حلف بغداد هو وقاية لحدود العراق من اي عدوان محتمل من جيرانه. الجدل وبعد مرور أكثر من نصف قرن مستمر على من ذا الذى كان على حق!!

بعد قيام ثورة 14 تموز 1958، لم تكن العلاقات بين العراق وايران على ما يرام، وزاد التوتر وانفجر بعد الثورة الايرانية عام 1979 وكان هناك كراهية عميقة بين الخمينى وصدام وبانت نذر الحرب التى كان يشجع على اندلاعها امريكا وبعض دول الخليج، حيث قدموا لصدام كل ما طلبه من مال وسلاح واندلعت الحرب في نهاية ايلول (سبتمبر) على اثر الغارات الجوية العراقية على ايران واستمرت المعارك الدموية طيلة ثماني سنوات راح ضحيتها حوالى المليونين من الأنفس. وكان احد نتائجها تأجج الطائفية حيث بدأ الحكم البعثي ينظر بعين الشك والريبة للشيعة فأخذ فى اضطهادهم ومطاردة وقتل كل من يشتبه بأمره. ولم يسلم البعض من السنة ايضا من ذلك الاضطهاد والتنكيل.

وبعد غزو صدام للكويت ودخول أمريكا الحرب الى جانبها، انكسر جيش صدام الذى وقع اتفاقية مهينة لانهاء القتال. قامت قلاقل فى الجنوب الشيعي فقمعها صدام بقسوة متناهية وفعل نفس الشيء مع الأكراد فى الشمال. كانت المقاطعة التى فرضتها امريكا وحلفاؤها على العراق تدمر العراق والعراقيين الذين كانوا يتضورون جوعا بينما رئيسهم يبنى القصور التى فاقت كل خيال. وأخيرا صممت أمريكا على انهاء حكم صدام ودخلت جيوشها بغداد فى 9 نيسان (ابريل) 2003 وهرب القائد امام جنوده والقي القبض عليه فيما بعد مختبئا فى حفرة ولم يدافع عن نفسه بل استسلم استسلام الذليل، وتم اعدامه بعد محاكمات طويلة. ومع ان صدام لم يكن له محب واحد من الحكام العرب، الا انه بعد اعدامه ثارت ثائرة العربان حكاما وشعوبا، وأقاموا له مجالس الفاتحة والتعزية وفى مقدمتهم ليبيا واليمن وقطر. ومن المعارضين من لا يخفى ان سبب معارضته للحكم الجديد فى العراق هو ان رئيس الحكومة وأكثر أعضائها من الشيعة، وحسبما أفتى لهم بعض مشايخهم بأن الشيعة كفار ويحل قتلهم. وقبل نهاية شهر نيسان 2003 بدأت قوافل (المجاهدين) والانتحاريين المجرمين تتقاطر على العراق، واستقبلهم البعثيون وكل من تضررت مصالحهم لتقتل أهل العراق وتدمر منشآته الحيوية، بحجة مقاومة الأمريكان ولكن مقابل كل امريكي يقتلونه كانوا يقتلون اكثر من مائة من العراقيين، ورفع بعض المشايخ راية (الجهاد) واقتصرت صلوات الجمعة على الحث على القتال، فزهقت أرواح البريئين وعم الخراب وامتلأ البلد بجيوش اليتامى والثكالى والأرامل والمعوقين، وعجزت المستشفيات عن استيعاب الجرحى والمرضى، وتبع ذلك عملية تهجير واسعة شملت السنة والشيعة، وهرب من استطاع الى خارج العراق ليصبحوا لاجئين معذبين، بعدما كانوا معززين مكرمين فى بلد الخير والعطاء.
كل هذا حصل ويحصل ولم نسمع فى يوم من الأيام ان احدا من تركيا او ايران (جاهد) فى العراق أو فجر نفسه فيه، ولا أظن ان بلدا عربيا واحدا لم يساهم بهذا (الجهاد) الاجرامي وتدمير البلد وقتل أهله على العكس من تركيا وايران. معظم الملوك والحكام وامراء العرب لا يكادوا يخفون سرورهم لما يحصل بل حتى انهم لم يمنعوا الفتاوى الاجرامية التى انطلقت من بلدانهم. هل سينسى العراقيون ما أصابهم من أقاربهم العرب؟ وكما قال الشاعر (وظلم ذوى القربى أشد مضاضة ) (على المرء من وقع الحسام المهند) وليست هناك مقارنة بين ضربة المهند وانفجار سيارة مفخخة.

ليت شعرى لماذا لا يفهم الجيران العرب ان العراق يختلف عن الدول العربية التى يدين الأغلبية الساحقة من سكانها بالأسلام على المذهب السني وأغلبيتهم الساحقة عرب القومية، بينما العراق معظم أهله مسلمون عرب شيعة؟ وفيه نسبة كبيرة جدا من الأكراد والتركمان والصابئة المندائيين، والمسيحيين وكثرين غيرهم؟ ان مايفعلونه سيدفع الشيعة العرب الى أحضان ايران ولن يكون ذلك فى صالح أحد الا ايران.

عاطف أحمد العزي