يذكرنى ما يحصل الآن فى العراق من قتل وتدمير بقصة حقيقية.فاجعة حصلت فى احدى مقاهى بغداد فى الأربعينات من القرن الماضى، وهى عن صديقين حميمين لم يفترقا منذ الطفولة. الأشرار موجودون دائما وأبدا بين الناس، شغلهم الشاغل اشعال الفتن والتفريق بين الأحباب. وهكذا لم يرق لبعضهم الصفاء بين الصديقين، فبدأوا باثارة العداوة والبغضاء بينهما، فقل تلاقيهما المعتاد فى المقهى بعد عودتهما من أعمالهما اليومية، ثم انقطع تماما. وحيثما يوجد الأشرار يوجد الأخيارأيضا، فتدخل الأخيار فى الأمر وكلموا كلا منهما على حده، وبدأت القلوب تلين. وفى أحد الأيام قرر احد الصديقين الذهاب الى المقهى لغرض الاعتذار لصديقه ومصالحته.
فى تلك الأيام كان الكثير من الرجال يحملون الخناجر (السكاكين) لغرض الدفاع عن النفس، وهكذا كان يفعل الصديقان. وصل الصديق الى المقهى وشاهد صديقه جالسا، والتقت عيونهما وظن الجالس ان صديقه سيقتله فسحب خنجره تحرزا، ولما شاهد الآخر صديقه مستلا خنجره فعل نفس الشيء، وهجم أحدهما على الآخر، وحصلت الفاجعة وسقطا على الأرض مضرجين بدمائهما، وفارقا الحياة بعد دقائق.
مثل هذه المأساة تحدث الآن وفى كل يوم فى عراقنا المخرب، حيث يقتل الناس بعضهم البعض الآخر بضراوة وبدون تمييزويخربون بيوتهم بأيديهم ويدمرون المنشئات الحيوية فى البلد حيث كاد ان ينعدم ماء الشرب والكهرباء، وتعسر الحصول على لقمة العيش، ولا يجدون راحة لا بليل ولا نهار، فان أصوات انفجارات القنابل والصواريخ تمنعهم من ذلك. الأطفال انقطعوا عن الدراسة، المستشفيات غاصة بالجرحى والمرضى والمصابين. الأطباء منهم من قتل ومنهم من هجر البلد، والقليل الباقى منهم مجهدون متعبون، وصار المرضى يبقون فى بيوتهم ويموتون فيها لعدم توفر العلاج اللازم.
تنتظر الزوجة زوجها ليعود فى المساء ومعه ما حصل عليه من اجور تقتات عليها العائلة، ويعود لكنه ممزق الجسد خال من الروح نتيجة انفجار سيارة مفخخة. وتضيع العائلة كما ضاعت الآلاف مثلها لينضموا الى جيوش الثكالى والأرامل واليتامى.
العراقيون أصبحوا لاجئين يتدفقون على البلدان المجاورة والبعيدة، وكثير منهم من يستجدى قوت يومه، ومنهم من سكنوا (أو اسكنوا) فى خيام على الحدود، حيث لايجدون أبسط مقومات الحياة. وفى تلك الخيام التى لا تقيهم من حر أو برد، يشكوا السني للشيعي والشيعي للسني من المآسى التى حلت بهم ولا يجدون تفسيرا معقولا اومقبولا. الرجال يدورون حول الخيام علهم يعثرون على أحد يعرفونه ويستطيع مد يد العون فلا يجدون. النساء يحملن الأطفال الذين بدا عليهم الهزال والضعف ولشدة ضعفهم لا يسمع منهم بكاء بل انينا يفتت الأكباد. وتمضى الأيام وكل يوم كأنه الدهر كله، وتدور بينهم اشاعات عن قرب الخلاص، ولكنها تبقى اشاعات فقط.
الحكومة منشقة على نفسها والمجلس النيابي وكأنه حلبة صراع، وبين أعضاء الحكومة والمجلس من هم من الارهابيين وقادة للارهابيين. الأمريكان وحلفاؤهم تاهوا فى هذا الخضم الهائل، ولم يعودوا يعرفون كيف يخلصون أنفسهم من هذه المعمعة. الدول المحيطة كل يبحث عن مصلحته الخاصة، ونسوا اخوتهم فى القومية واخوتهم فى الدين، وحتى حق الجار على الجار. ومن هؤلاء الجيران من يغتنم الفوضى وفقدان الأمن وضعف الرقابة على الحدود لتمرير من يسمونهم بالمجاهدين والأسلحة الفتاكة، ليجهزوا على العراق الجريح.
أما مجلس البرلمان (الحجاج) العتيد، فكل يبحث عن مصلحته الخاصة وكيف يبقى عضوا فى المجلس لينعم بالرواتب الضخمة والمخصصات والامتيازات، وكل منهم يتهم الآخر بالطائفية والعمالة. ويندر ان يتم النصاب، فان الأعضاء مولعون بالاجازات ومنهم من لم يدخل المجلس منذ ان انعم عليه بالعضوية، بل فضلوا التجول فى خارج البلد حيث الأمان والمتعة لهم ولعوائلهم، ويدفع لهم بدل سفر وحماية. و قريبا تبدأ عطلة المجلس وتستمر شهرا كاملا، ووافقوا (اكراما) للشعب العراقي ان تكون العطلة شهرا واحدا بدلا من شهرين!!!
وبعد احتفالات يوم الأحد بانتصار الفريق العراقي فى مباراة كرة القدم والفرحة القصيرة للعراقيين البائسين، فقد عادت اعمال التفجير الاجرامية تحصد الأرواح البريئة، وماتت البسمات على الشفاه.
الى متى يستمر القتل؟ الى متى يستمر التدمير؟ الى متى يستمر التهجير؟ الى متى يصم القتلة آذانهم عن بكاء الثكالى والأرامل واليتامى؟ الى متى يتجاهلون انين الجرحى وبكاء الأطفال الجائعين؟ متى يصحى المتقاتلون فيدركوا ما هم يفعلون؟ ليدركوا انهم انما يقتلون اخوانهم وشركاءهم فى الوطن، ليدركوا انهم يخربون بلدهم، ليدركوا انهم أضاعوا مستقبلهم ومستقبل أولادهم بهذه الأعمال الشريرة الحمقاء، وليدركوا انه لن يكون بينهم منتصر، وليدركوا ان المنتصر الوحيد سيكون الغريب الشرير الطامع الذى يحرض بعضهم على البعض الآخرويقف موقف المتفرج الشامت. أما لهذا الليل من آخر؟