لايزال البعض يصر على أدلجة وتسييس كل شئ، وكأننا لانزال نعيش ايام الحرب الباردة بين المعسكر الاشتراكي بقيادة ما كان يعرف سابقا بالاتحاد السوفياتي، وبين المعسكر الرأسمالي بقيادة امريكا. فما ان يحقق السوفياتي فوزا رياضيا على اي منتخب اوربي غربي حتى تسارع وسائل الاعلام السوفياتية الموجه مركزيا، والمتحكم بها من قبل الحزب الشيوعي الى اعتبار ماتحقق من فوز انجاز تاريخي للشيوعية، وللمادية الديالكتيكية، ولنضال الطبقة العاملة البروليتاريا في صراعها المرير ضد الامبريالية. وعلى ما يبدو ان عدوى وداء الادلجة والتسييس انتقل الى بقايا القوميين العرب بعد افول الشيوعية، واندثار الاتحاد السوفياتي. وما ينطبق على غلاة القومية ينطبق ايضا على متطرفي التيارات الدينية في سعيهم الحثيث لأدلجة كل مظاهر الحياة من فن، وادب، وسينما، ومسرح، وشعر وغيرها من مجالات الحياة المختلفة تحت عنوان (الاسلمة).
ومناسبة هذا الحديث هو محاولة قناة اعلامية (عراقية) معروفة بمناكفتها للعملية السياسية الحالية في العراق، وكذلك تحولها الى بوق للطائفيين وايتام النظام البعثي البائد، وإختلاقها للأكاذيب، اقول محاولة القائمين على هذه الفضائية أدلجة النصر الكروي الكبير الذي حققه ابطال المنتخب الوطني العراقي لكرة القدم في بطولة امم اسيا الاخيرة، وذلك من خلال وصف اعضاء منتخبنا بانهم (ابطال قوميون) في محاولة اقل مايقال عنها خبيثة تهدف الى سرقة هذا الانجاز الذي حققه فرسان الكرة العراقية بعدما انعتقوا من نير عبودية الطاغية النافق عدي صدام، وتحريف انتصارهم الكبير من خلال ادلجته بما يتلائم والسياسة الاعلامية لهذه القناة، والاجندة المشبوهة التي تحاول تنفيذها في العراق بمساعدة بعض الانظمة في المنطقة والتي لاتزال تحن الى حكم البعث لدواع طائفية وعنصرية رغم الكوارث التي تسبب بها بحق العراقيين والعرب والمنطقة. وكيف تحاول هذه القناة أدلجة وتسييس انجاز رياضي؟ قد يسئل سائل.
فنجيب ان الادلجة تمثلت بأستخدام هذه القناة عبارة (ابطال قوميون) عند وصفها لاعضاء المنتخب الوطني العراقي في محاولة محسوبة بدقة لإعادة العراق الى خندق القومية على الطريقة البعثية بعد تحرره منها، واعادته الى حظيرة القومية معناه اعادة نهبه، وتحويله الى بقرة حلوب تدر بلبنها على غيرها، وحرمان ابناء العراق من ثروات بلدهم. وبكلمة أخرى ان استخدام عبارة (ابطال قوميون) لم يكن امرا عفويا من القائمين على هذه القناة، بل هو امر مخطط له، أريد منه تجيير فوز المنتخب لخانة البعثيين انطلاقا من المشروع السياسي الذي تتبناه هذه القناة والذي يقوم على اساس التشكيك بالعملية السياسية الجارية في العراق، وزرع بذور الريبة، واليأس في نفوس العراقيين لايقاف عجلة التطور الديمقراطي. فكلمة (ابطال قوميون) أريد من خلالها ايصال فكرة للمشاهد العربي، وللانظمة العربية المنزعجة من اسقاط نظام البعث مفادها ان العراق وابناءه ماهم الا جزء من المشروع القومي العربي، وهم وبلدهم في خدمة هذا المشروع، وانهم على استعداد للذود عن مباديء القومية العربية، ورهن الاشارة وفي خدمة المشروع القومي، هم وخيرات بلدهم بنفطه، وثرواته، ونهريه، واراضية مشروع تضحية وفداء في سبيل تحقيق شعار البعث في امة عربية واحدة، يكون العراق بوابتها(الشرقية) وربما من هنا جاءت تسمية هذه القناة حيث المراد ابقاء العراق كبش فداء في سبيل الاخرين. هذا هو المقصود من وراء وصف اعضاء منتخبنا الوطني العراقي بـ(ابطال قوميون) من قبل هذه القناة المؤدلجة، وهذه هي الادلجة والتسيس بعينه، والا فما الذي يمنع هذه القناة من اطلاق وصف ابطال وطنيون على اعضاء المنتخب العراقي بدلا عن الوصف السابق كما تفعل بقية القنوات العربية مع منتخباتها؟
وقد يقول قائل انك بهذا التحليل تحمل الامور اكثر مما تتحمل، وعليك ان تحمل اخاك على سبعين محملا. حسنا اتمنى ان اكون مخطئا لكن دليلي _ونحن اصحاب الدليل حيثما مال نميل_ في ذلك ان كل المنتخبات العربية تصف نفسها بالمنتخب الوطني، وتصف ابطالها بالوطنيين. فمصر حينما فاز منتخبها ببطولة قارة افريقيا لم نسمع ان الاعلام المصري وصفهم بـ(الابطال القوميين) بل وصوفوا بابطال افريقا، وبالابطال الوطنيين، وبالمصريين الوطنيين، ومايصدق على الاعلام المصري يصدق على اعلام اي دولة عربية مع منتخبها. فالاعلام السعودي كان يتحدث عن الابطال السعوديين، وعن الاخضر السعودي، ولم اسمع من اي معلق خليجي ان وصف اعضاء المنتخب السعودي بالابطال القوميين هذا مع العلم ان جميع اعضاء المنتخب السعودي عرب، فما بالك بالمنتخب العراقي الذي يضم بين صفوفه عراقيين غير عرب من امثال البطل العراقي هوار الملا محمد؟ فبماذا سنجيب قوم هوار الذين رفعوا راية العراق في كردستان ابتهاجا بالنصر العراقي الكبير، وتعبيرا عن انتمائهم الوطني للعراق ولشعبه، اقول بماذا سنجيبهم اذا سئلونا لماذا تصفون فرسان منتخبنا العراقي بالابطال القوميين وفيهم غير العرب؟
كعربي ورغم اعتزازي بعروبتي اعجز عن اعطاء جواب مقنع، ولا اظنهم سيقتنعون بالقول ان اكثرية العراق عرب. فالوطنية مقدمة على القومية عند الجميع بما فيهم العرب انفسهم في بقية الدول العربية. فالسعودي يقدم سعوديته على عروبته، والمصري يعتز بمصريته قبل عروبته وهكذا بالنسبة للآخرين. ولو كان العكس هو الصحيح اي ان العر ب يقدمون ولائهم القومي على القطري لما رأينا تلك الخلافات العميقة بينهم، ولا ما اضطرت بعض الدول العربية لأنتزاع حقها من دول عربية اخرى الى اللجوء الى محكمة العدل الدولية كما حصل في النزاع القطري البحريني، فإذا كان هذا هو حال العرب فيما بينهم، فلماذا اذن يراد للعراق ان يشذ عن الاخرين فيقدم الولاء للقومية على الولاء للوطنية وللعراق؟ هل المطلوب التضحية بالشقيق الكردي، و التركماني، و الكلداني، والاشوري في سبيل ارضاء ابن العم العربي؟ وايهما اولى براعاية شعوره من يشاركك الوطن ام جارك؟ فاذا كان الاول هو الاولى فلماذا تصر هذه القناة اذن على جرح مشاعر العراقيين من غير العرب حينما تصف ابطال منتخبنا بـ (القوميين)، اما كان الافضل وصفهم بالوطنيين مراعاة لشعور كافة العراقيين؟ علما ان هذه القناة هي ذاتها من نقل احتفالات الاكراد في كردستان العراق عشية فوز المنتخب الوطني العراقي، وتلويحهم بالاعلام العراقية كدليل على اندكاكهم بالعراق ارضا وشعبا.
لكن وعلى ما يبدو ان القصد من استخدام وصف (ابطال قوميون) من قبل قناة (البوابة الشرقية) وكما مرَّ هو اعادة العراق الى خندق القومية، وجعله كبش فداء ولو على حساب شرائح غير قليلة من ابناء الشعب العراقي من غير العرب تحت ذريعة عروبة العراق والالتزام القومي في محاولة لأعادة انتاج الخطاب البعثي والذي ينطلق من دوافع طائفية وعنصرية محضة. وهنا نسئل الا يتطلب الالتزام القومي من العرب _هذا اذا كان هناك التزام من اصله_ ان يقفوا مع العراق في اتراحه مثلما يطلبون منه ان يشركهم في افراحه على ندرتها؟ لماذا ترك العرب العراق وحيدا في مأساته، يلملم جراحه، وينشف دموعه؟ اين اصبحت العروبة، والقومية العربية، والمصير المشترك؟ ثم لماذا يُراد للعراق دوما ان يعطي ويدفع دون ان يأخذ؟ وهل من مصلحة العراقيين بعد المواقف العربية المخزية تجاههم وتجاه محنتهم تجيير انتصار أبنائهم لصالح غيرهم، وتحويله من انجاز وطني الى قومي؟. ومن هنا نسجل اعتراضنا على استخدام هذا الوصف الغير برئ، ونرى ان من يحمل نوايا حسنة تجاه العراقيين والعراق فعليه استخدام كلمة ابطال وطنيون، او ابطال عراقيون لوصف اسود الرافدين والذين نسميهم بالسليقة بالمنتخب الوطني العراقي وليس المنتخب القومي.
اخيرا، أقول ان الكلمات هي مادة الخطاب الاعلامي، وللكلمات مدلول ظاهر وآخر باطن، ودعاة الاجندة المشبوهة يعملون على التلاعب بمدلول الكلمات والالفاظ لاستغلال عواطف الناس ومشاعرهم لتمرير مخططاتهم عبر استخدام مفردات اعلامية للتأثير على العقل الباطن واللاوعي للمستمع، وخصوصا في لحظات الفرح او الحزن، وهذا ماتفعله القنوات المؤدلجة والمسيسة. ففي ذروة النشوة يحاولون تمرير اجندتهم، ومن هنا جاء عزف النشيد الجمهوري لعهد النظام البائد لإيصال رسالة سياسية مفادها ان البعث لايزال موجدا عبر ايتامه الذين التقطتهم هذه الدولة او تلك المولعة بالبعث الصدامي حامي البوابة(الشرقبة) من اطماع الفرس (المجوس) المحتلين لجزر واراض عربية. مخطئ كل من يتصور ان عزف النشيد الصدامي في حفل الاستقبال في دبي كان (مجرد) خطأ فنيا، بل هو امر دُبر بليل، وخُطط له ليتناغم وكلمة (ابطال قوميون) التي استخدمتها تلك القناة المؤدلجة التي تبث برامجها من دبي، لينفثوا بسمومهم العنصرية، وليفسدوا علينا فرحتنا بابطالنا الوطنيين. فهل وصلت الفكرة؟.
التعليقات