تستقي هذه المحاولة من التراث تفضيلاته، وتعلق عليها، والتراث الذي أتكلم عنه، ليس التراث الشفاهي أو الشعبي لهذه الفئة من الناس، بل هو التراث المكتوب منذ حوالي ألف عام، ويكفي أن أعرض ما يقوله ابن عبد ربه الأندلسي في quot;العقد الفريدquot; أو الأبشيهي في quot;المستطرفquot;، لأجد الأسماع قد شنّفت، والثغور قد افترت عن ابتسامة.
سئل أعرابي عن النساء، وكان ذا تجربة وعلم بهن، فقال: أفضل النساء أطولهن إذا قامت، وأعظمهن إذا قعدت، وأصدقهن إذا قالت، التي إذا غضبت حلمت، وإذا ضحكت تبسمت، وإذا صنعت شيئاً جوّدت، التي تطيع زوجها، وتلزم بيتها، العزيزة في قومها، الذليلة في نفسها، الودود الولود، وكل أمرها محمود.
إن القارئ سيلحظ ما يرغب به اللاوعي العربي، وفي ما يطمح إليه الوعي، إنه البحث عن الكمال، الذي قد لا يكون له وجود في الدنيا، بل وكما أجابت quot;الدلالةquot; خالد بن صفوان بعد أن عرض لها مطلبه ndash; وهو يشابه إلى حد كبير ما تم عرضه سابقاً ndash; أجابته: قد أصبتها لك. قال: وأين هي؟ قالت: في الرفيف الأعلى من الجنة فاعمل لها!
ما أقصده، هو أن الصفات المذكورة سابقاً، قد تجتمع بعضها في المرأة، والتشديد يبقى على ما يتخطى الشكل، إذ هو المطلب الأساس.
كما سئل مجدداً: صف لنا شر النساء، فقال: شرهن النحيفة الجسم، القليلة اللحم، كأن لسانها حربة، تضحك من غير عجب وتبكي من غير سبب، وتدعو على زوجها بالهلاك، أنف في السماء وإست في الماء، كلامها وعيد وصوتها شديد، تعين الزمان على بعلها، ولا تعين بعلها على الزمان، ليس في قلبها عليه رأفة، ولا عليها منه مخافة، كثيرة الدعاء، ضيقة الباع، صبيها مهزول، وبيتها مزبول، إذا حدّثت تشير بالأصابع، بادية من حجابها، قد دلى لسانها بالزور، وسال دمعها بالفجور.
هذه صفات شر النساء، منها صفات تختص بذاك العصر، ومنها ما هو مستمر يتخطى الزمن. فصفات النحيفة الجسم القليلة اللحم، على سبيل المثال، هي صفات لا تختص بأخلاقها أو بنسبها، بل هي صفات تطال شكلها، وقديماً كانت النحافة مكروهة.
بينما الصفات التي تطال الأخلاق، تنطبق على عصرنا أيضاً، إذ أننا جزء من هذه الثقافة، إضافة إلى أن هذه الصفات ترتبط بنسق القيم، لذا يمكن القول أن الصفات المادية تتغير من زمن لآخر في نفس المجتمع، تبعاً للتطور الحاصل داخل المجتمع نفسـه، وأيضاً بسبب التثاقف، بينما الصفات المعنوية، التي تتداخل بمنظومة القيم، ليس من السهل تبدّلها، لذا نجد هذا التشابه بين صفات شدّد عليها العرب منذ ألف عام، ما زلنا للآن نجدها أساسية في حياتنا وفي اختيارنا للزواج.
إن الفكرة التي أحاول إيصالها، تتعلق أولاً بضرورة الإطلاع على التراث المكتوب؛ وثانياً، العمل على مقاربته مع واقعنا المعاش.
كما تدّعي هذه المحاولة، رؤية التراث بشكل آخر، فالتراث ليس أمراً منفصلاً أو مبتوراً عن واقعنا المعيوش، بل هو جزء منه، كما الخلف جزء من السلف.
إن التعاطي مع التراث، لا تلزمنا إعادة إحيائه، بل فهمه يكفي، وإن من يقرأ ما سبق، سيجد أن معظم ما ذكرته من quot;تراثquot; يعود لألف سنة خلت، ما زال مستمراً معنا في سلوكنا وتصرفاتنا، إذن هو لا يحتاج لنا لإنعاشـه، فما يستمر هو ذو ضرورات ومنافع تتطلّبها حياتنا اليوم، أما ما اندثر، فقد تخطيناه بسبب التغير الثقافي.
كما يؤسس التعاطي مع التراث وفهمه، إلى رؤية أدق وأعمق لطبيعة العلاقات السائدة في مجتمعنا، وسبر بنية الذهنية المتراكمة من ذاك الزمن إلى الآن، والتي تتمأسس حولها، وتنبني عليها، ثقافتنا الحالية، وعلاقاتنا الإنسانية.
إن جلّ ما فعلته، هو تقديم صورة، لعصر زال، أو ما زال يذوي فينا، ونحمله كإرث دون أن ندري أحياناً، نحاول التخلص منه رافضين له فنقع في وهدة التغريب، أو نغرق به فلا نفهمه، ونحاول تقليده فنقع في شرك التقليد الأعمى، إذ لا وجود للإبتكار والإبداع!
إن محاولتي توجّه الإهتمام نحو ذلك التراث، وتؤكد إمكانية التخلي عن بعضه دون أن يحدث لدينا ذلك أرقاً أو يدمّر فينا جزءاً. فهل نقدر على تحمّل هذه المسؤولية، أم نكون كمن يحمل أسفاراً؟! إنه السؤال/المعضلة!!