1- امة عربية واحدة
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وانتهاء الحكم العثماني للبلاد العربية الذى استمر ما يقرب من 400 سنة، مخلفا وراءه بلدانا يعمها الخراب والجهل والأمية وتتفشى فيها الأوبئة والأمراض، ومنها العراق الذى كان نصيبه من المعاناة أكثر من غيره. ودخل العراق تحت الانتداب البريطاني وتنفس الناس الصعداء لأن المستعمرين الجدد أرحم بهم من السابقين. بدأت تسمع أصوات تدعوا الى الوحدة العربية، واستمر ذلك فى هبوط وصعود، حتى أخذ كل واحد من ملوك العرب يسمى نفسه ب (ملك العرب) و لا أحد منهم كان راغبا فى التخلى عن عرشه فى سبيل الوحدة. وخلال ذلك لم يكن هناك أحدا يدعوا الى قيام دولة اسلامية او وحدة اسلامية بل قبع رجال الدين فى المساجد والمدارس الدينية يقومون بواجباتهم بارشاد الناس دينيا كل حسب طائفته.
وبعد ان نجح الضباط المصريون فى تنحية الملك فاروق عن العرش وصعد نجم البكباشي(المقدم) جمال عبد الناصر ووجه اعلامه نحو الدعوة الى الوحدة العربية، وبطبيعة الحال رشح نفسه لرئاسة الدولة العربية الموحدة، أخذ يثير عواطف الناس مما دفع معظم العرب المخدوعين الى تأييده. ولم تكن دعوته تخلوا من مطامع شخصية واقليمية وظهر ذلك جليا بعد اعلان الوحدة مع سورية التى أصبحت وكأنها مستعمرة مصرية وخرب اقتصادها، وكان الانفصال. وفى عام 1958 قامت ثورة الضباط العراقيين بقيادة الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم، وخاب أمل عبد الناصر الذى توقع ان يستلم العراق بعد نجاح الثورة، وجن جنونه وأخذ يحيك المؤامرات لاسقاط الزعيم ونجح فى ذلك فى شباط الأسود من عام 1963 حينما انقلب عليه بعض الضباط ومعظمهم من البعثيين الذين احتضنهم ناصر عندما كانوا فى المنفى.
وبعد هزائم ناصر العديدة ثم رحيله، خفتت اصوات الدعوة الى الوحدة العربية التى لم تكن أصلا ممكنة بسبب البون الشاسع بين البلدان العربية فى كل المجالات. كما ان اسباب التفرقة كانت ولا زالت أكثر بكثير من أسباب الوحدة. ثم قامت الثورة فى ايران وتغير اسم الدولة الى (الجمهورية الاسلامية) فكان ذلك ايذانا ببدء عهد جديد من الصراع الطائفي، وخيم القلق على حكام الدول العربية وباتوا يخشون من دعوة شيعية قد تكتسحهم. وحصلت الأعمال الحمقاء التى قام بها حكام ايران الجدد ومنها أخذهم الرهائن الأمريكان، مما جعل امريكا ومعها العالم الغربي يقف منهم موقفا عدائيا شرسا. ولم تجد امريكا وحلفاؤها ومعهم الحكام العرب خيرا من صدام المصاب بجنون العظمة، ليقوم بمهاجمة ايران. واندفع هذا بكل حماقة الى المعركة بعد ان زودوه بالمال والسلاح والتى كانت من نتائجها مقتل مئات الألوف من العراقيين. وكانت هذه الحرب الغبية ايذانا بتدهور العراق. ولتصليح هذه الحماقة وبعد انتهاء الحرب مع ايران قام صدام بحماقة جديدة واحتل الكويت وخيل اليه انه قادر على الانتصار على أمريكا وحلفائها الغربيين والعرب، ورفض الخروج من الكويت. وكان نتيجة ذلك مقتل مئات الألوف أيضا وتدمير البنية التحتية للبلد. وجاء الحصار ليزيد من تعاسة العراقيين الذين لا يكادون يجدون قوت يومهم بينما انشغل صدام فى بناء القصور الفخمة، واقامة الأحتفالات الباذخة بيوم ميلاده.
بعد قيام الثورة العراقية وتنصيب الملك فيصل الأول السني، وبالرغم من انه لم يكن طائفيا، ولكن المناصب الحكومية المهمة والرتب العسكرية الكبيرة كانت تمنح للسنة حصرا الا ما ندر، ومما زاد الطين بلة ان الكثير من علماء الدين الشيعة قد أفتوا بأن الوظيفة الحكومية حرام لأن رواتب الموظفين تدفع من ضرائب محرمة مثل ضريبة المشروبات الكحولية. وبتقدم الزمن اصبح الشيعة يشعرون بالخيبة، خاصة وهم يشكلون الأغلبية فى البلد. وبعد خروج جيش صدام الاضطراري من الكويت قامت فى الجنوب حركة هوجاء غير منظمة ضد حكم البعث قمعها صدام بكل شراسة وضراوة، واعدم الألوف من القائمين بها. تبع ذلك انتفاضة الأكراد فى الشمال وهم الذين عانوا الأمرين من حكم صدام حيث ضربهم بالغازات السامة وهجرهم ودفن الكثيرين منهم وهم أحياء تحت انظار امريكا وحلفائها الذين وقفوا يتفرجون. ان صدام لم يكن طائفيا لأنه لم يكن متدينا، وانما كان من الطائفة السنية بالولادة وقد أخذ منذ بدء الحرب مع ايران بالتظاهر بالتدين حسب القاعدة : حارب عدوك بسلاحه، حتى انه كتب بخط يده على العلم العراقي عبارة (الله أكبر). وبدأ خوف الناس منه يتبخر بعد اندحاراته المتلاحقة، مما جعله يشك حتى فى أقرب المقربين اليه، وفتك بهم فتكا ذريعا دون ان يبالى ان يكونوا سنة او شيعة او حتى من أقاربه. ازدادت هجرة العراقيين الى الخارج خوفا من بطشه وارهاب قادته. وكان أن اتصل بعض من العراقيين فى الخارج (سنة وشيعة) بالأمريكان وشجعوهم على التصدى لصدام الذى كان وجوده يهدد مصالح أمريكا النفطية فى المنطقة، فكانت الحرب وهرب جيش صدام وما ان وصلت القوات الأجنبية بغداد حتى فر القائد (الضرورة!) من ساحة المعركة.
انتهى عهد صدام والبعثيين وانتهى معهم شعار (امة عربية واحد ذات رسالة خالدة)، ولم يبقى بعدهم سوى نظام البعثيين فى سوريا الذى ما زال يتاجر بالشعار المهلهل (وحدة وحرية واشتراكية) والذى لم يطبق ولا أمل له بطول بقاء ولا أظنه سيتعدى الحدود السورية.
2- دولة الخلافة الاسلامية
لم يرق الوضع الجديد لضباط صدام القدامى فمنهم من هرب للخارج ومنهم من بقي فى البلد يجمع السلاح والعتاد، يساعدهم من تضررت مصالحهم او فقدوا امتيازاتهم. واستفاد هؤلاء من الثروات الهائلة التى هربها صدام وأهله والمقربون اليه. ثم كان تعيين الأمريكان للوزارة الأولى فى العهد الجديد برئاسة شيعي، فكان ذلك حجة لهم لاثارة الطائفية، وتعمم قسم من البعثيين، سنة وشيعة، وأصبحوا من خطباء الجوامع وأخذوا يدعون للجهاد ضد الحكم (الكافر). ووجد الوهابيون فى الداخل والخارج الفرصة سانحة لهم ليحولوا البلد الى حكم طائفي دموي تحت غطاء (دولة الخلافة الاسلامية). أما الشيعة فبرز منهم مقتدى الصدرالذى اتخذ من اسم ابيه الذى قتله صدام وسيلة لاقناع المغفلين والجهلاء الذين سرعان ماتبعوه وقدموا له فروض الطاعة العمياء مما أنزل بالبلد أسوأ الضرر. وكان بعض العراقيين الشيعة قد التجأوا الى ايران ليحموا أنفسهم من صدام وعادوا بعد سقوطه، وبينهم عدد من رجال الدين الشيعة، مما تسبب فى اتهامهم من قبل الجانب الآخر بالعمالة لأيران.
حصلت الانتخابات، وقاطعها معظم السنة، وهذا على ما أعتقد، كان خطأ كبيرا. وعلى علاتها يمكن اعتبار تلك الانتخابات أحسن من غيرها من الانتخابات التى جرت فى المنطقة. ولكن التصويت جرى على كتل وليس على أشخاص كما كان يجرى فى كل العهود الماضية، فظهر لنا أعضاء لم نتوقع ان نراهم فى المجلس، وخسر مرشحون كنا نراهن على فوزهم ونزاهتهم، ولكن ماذا نتوقع من ناخبين معظمهم أميين جهلاء؟ اذا نظرت الى أعضاء المجلس فى الاجتماع، سيخيل اليك أنك فى حفلة تنكرية، بسبب تنوع أشكال وأنواع ما يرتدون، واذا ما تناقشوا تشعر وكأنك وسط معركة تجرى فى زقاق ببغداد القديمة!!، وتحول الهتاف القديم لصدام الى الصلاة والسلام على الرسول (ص) عند دخول مسؤول كبيرللمجلس وكأنه امام يدخل مسجدا.
الكثير من السنة الذين شاركوا فى العملية السياسية، لم يكن غرضهم الحقيقي الا ضعضعة الحكومة واشاعة الفوضى آملين الوثوب على الحكم. قسم منهم اعترفوا بأنهم طائفيون وقسم آخر يقومون بأعمال ارهابية بمساعدة دول الجوار. يعارضون الحكومة فى كل شيء عدا زيادة رواتبهم ومخصصاتهم، وغرضهم الوحيد هو الاستيلاء على الحكم. واشترك الجميع فى نهب البلد وتهريب النفط الذى يجرى على قدم وساق خاصة فى الجنوب حيث تقوم معارك طاحنة بين جهلاء ولصوص يقودهم معممون متنافسون.
ثم حلت الكارثة الجديدة نتيجة تدميرالمرقدين المقدسين والقبة الذهبية فى سامراء، وما تبع ذلك من تدمير لبيوت الله بدون تمييزسنية كانت ام شيعية، ولم تسلم منهم حتى الكنائس والمعابد. وانتصر البعثيون والسلفيون التكفيريون (القاعدة) فى تأجيج الطائفية بين العراقيين، وحصلت مذابح رهيبة ما زالت مستمرة تحصد الأرواح حصدا، وليس باستطاعة الحكومة الضعيفة عمل شيء بينما تتجاذبها ثلاث قوى: الميليشيات الطائفية، المعارضة السنية، والحكومة الأمريكية.
فى كانون الثاني (يناير) 2006 اعلن عن قيام (نواة دولة الخلافة الاسلامية فى العراق)، مدعومة من قبل دول الخليج شعوبا وحكاما، وزودوها بالمال والسلاح والانتحاريين، وكان هناك اتفاق غير مكتوب بين هذه الدولة المزعومة والصداميين وباقى التكتلات المعارضة التى لا يهمها غير الاستيلاء على الحكم. وازداد القتل والتدمير والتهجير والهجرة من البلد، وحلت بالبلاد مصائب لا تقارن بكل المصائب فى كل الأزمان.
ومؤخرا بدت علامات خير تلوح فى الأفق، حيث شعر العراقيون بأنهم قد خدعوا من قبل دول الجوار، وبدأ بعضهم يطارد الارهابيين والغرباء ويضيق عليهم الخناق، ولن يمضى طويل وقت حتى يتخلصوا من هؤلاء القتلة وتسحق ما يسمى ب(نواة الدولة الأسلامية) التى يريدون اقامتها على أجداث الملايين من الأبرياء وعلى أنقاض المدن المدمرة، ويستعبدون الناس ويعاملونهم كقطعان من الغنم، ويحتجزون النساء فى البيوت، ويمنعون الأطفال من المدارس عدا مدارسهم الارهابية لتدريبهم على القتل والدمار، و وهم يقضون على كل ما هو انساني فيهم ويخلقون منهم مجرمين قتلة مثلهم، لايقيمون وزنا للحياة البشرية ولا يملكون عاطفة الانسان السوي، بينما الحياة هى هبة من الخالق العظيم ونعمة من نعمه. لقد خرقوا كل قوانين السماء والأرض، وآثامهم تحرق الأخضر واليابس، يقودهم شذاذ الآفاق الذين يقبعون فى الكهوف يخططون لتدمير البشرية. لقد ظهر قبلهم أشباه لهم أو أشد منهم وعاثوا فى الأرض فسادا، ومضوا وانتهوا الى مزابل التأريخ، وهم لهم لتابعون، ولن تنفعهم (دشاديشهم) القصيرة ولا لحاهم القذرة، وسيكون حسابهم عسيرا ومصيرهم جهنم وساءت مصيرا.
أما العراق، فسوف يخرج من هذه المحنة عزيزا قويا موحدا بكافة أديانه وقومياته وطوائفه، ويأخذ مكانته اللائقة بين دول العالم الحر المتقدم، وينعم أهله بالحرية والخير والسعادة والأمان.