عندما يدعي الاسلاميون (بشقيهم الشيعي والسني) والقوميون العرب الوطنية في رفض كل حلول التقسيم فانهم في الحقيقة ينطلقون من مبدا الاستحواذ على عراق كامل لتاسيس الدولة الاسلامية او الدولة القومية العربية على ارضه رغما عن كل المواطنين الذين لاينتمون الى مدارسهم الفكرية لان التحكم ب واضطهاد شعب صغير في وطن صغير لايرضي طموحاتهم الاممية لتكوين دولة الخلافة الاموية اوالولاية فقيهية او الدولة العربية العظمى من النهر الى البحر. اما رفض الاقليات الأثنية للتقسيم فهو لان لهم حياة في توازن الرعب بين الأثنيات الكبرى حيث ليس من مصلحتها ان تكون تحت رحمة طائفة او قومية معينة واحدة في وطن واحد لااحد يضمن لهم فيه المساواة.
لايجيد العرب فن التفاوض ولايؤمنون في تقديم اي تنازل لانهم يصنفون كل النشاطات الانسانية الى صنفين اثنين لاثالث لهما, اما حق واما باطل او اما ابيض او اسود فلاتوجد منطقة وسطى في قواميسهم السياسية. وحتى حينما لايستطيعون استرداد ماأخذ منهم بالقوة يرفضون قبول نصفه وحتى ثلاثة ارباعه ان اريد اعادته لهم فهم من اخترع عبارة quot;انصاف الحلولquot; نكاية بفن التفاوض لانهم يريدون حلولا جذرية او حاسمة كما كان يدعي القائد الضرورة(المشنوق صدام).
معروف في ثقافة العرب انهم لايقبلون باي واقع أو تغيير جديد حتى يفرض عليهم بالقوة لكن ماان يتم فرضه عليهم حتى يصبح مقدسا لديهم. الشعوب العربية شعوب عاطفية اكثر منها عقلانية وتهتف لكل زعيم ديماكوجي يستطيع تهييج الشارع بخطاب ثوري عظيم مليء بالمبالغات في المديح لهذه الامة وشعوبها التي لاتهزم للحد الذي اضحى فيه الخطاب السياسي العربي quot;مورفينquot; الجماهير الذي ادمنت عليه وكلما اعطيت منه شيئا هدرت بطلب المزيد لانه العلاج الوحيد او الحلم الجميل الذي يغطي كل النكبات والنكسات والهزائم على كل جبهات الواقع ويصورها على انها انتصارات ولقد استطاع بعض الخطباء العرب مثل جمال عبد الناصر والمراهق معمر القذافي وحتى صدام حسين ان يطربوا الشعوب العربية بخطابات سياسية حماسية مؤثرة كما لو انها اشعارا رومانسية تقلب الهزائم الى انتصارات. لقد تميز الخطاب السياسي العربي بشيزوفرينيا رهيبة في انفصاله عن الواقع وغوصه في الخيال منذ خمسينات القرن المنصرم.
سوف يدفع عنوان المقالة الكثيرين لرجمي دون وعي منهم لانهم مسحورين بخطابات جميلة حالمة تتغنى بعظمة العراق وطيبة وتسامح اهله وتعايشهم وعلمهم وثقافتهم ونبذهم للعنف والطائفية وطبعا كل هذا هراء واضغاث احلام لان العراق ليس كذلك مطلقا وقد يكون العكس هو الصحيح لان العراق طائفي طائفيته بدأت منذ معركة الجمل وصفين ودولة بني امية وبني العباس والدولة الفاطمية والايوبية نزولا الى الدولة العثمانية والبويهية والصفوية وما كان يعانيه السنة من حكم الصفويين والشيعة من حكم العثمانيين وتاريخ الاعظمية والكاظمية وتواطيء والي بغداد العثماني وغض النظر عن هجمات الوهابيين وquot;الاخوانquot; السعودييين لتدمير مراقد أئمة الشيعة يشهد بذلك.
وكل حكام العراق سواءا كانوا من العراقيين الاصليين او من المحتلين كانوا طائفيون بامتياز باستثناء عبد الكريم قاسم( لذلك لم يدم حكمه طويلا) وان تخللت حكمهم فترات آمنه نسبيا فلانهم حكموا بالنار والحديد فكان مشهد تدحرج الرؤوس في بلاط الوالي اهم ماميز حكمهم. واذا تغنى البعض بما سموه الموزائيك الأثني العراقي فهذا صار مصدر قوة في العالم المتحضر وليس في عالم الشرق الاوسط المتخلف بل لعل هذا التعدد الاثني وراء تعدد الحروب التي تميز بها تاريخ العراق أو نتيجة لها فلم يكن عامل استقرار قط بل كان ولازال عامل نزاع تاريخي طويل.
لكن العراقيون حالهم كحال الشعوب العربية الأخرى لايحبون سماع الحقيقة لانها مرة وهم الذين اعتادوا على سماع مايودون سماعه من واحات خضراء وماء وفير وانهار وجنات وحور عين وسط صحراء الحقيقة المجدبة فالويل لمن يوقظهم من حلمهم الجميل هذا.
الوطن بالنسبة للانسان غير المؤدلج هو بقعة الارض التي يستطيع بناء مسكن عليها يحميه وعائلته من حرالقيظ وبرد الشتاء وتوفر له عملا ولابنائه مدرسة ومشفى ويختار المؤهل من جيرانه لوضع القوانين وتاسيس القوى الامنية والحكومة التي تساوي بينه وبين جيرانه في الحقوق والواجبات.
ليس شرط ان يكون الوطن نفطيا (السويد مثلا). وليس شرط ان يكون قوي عسكريا (سويسرا مثلا). ليس شرط ان يكون كبير من حيث المساحة(لبنان مثلا). ليس شرط ان يكون تعداد نفوسه كبيرا(قطر مثلا). ليس شرط ان يكون نووي (المانيا مثلا). كلما يشترط ان يتوفر فيه هو الارض والامن والحقوق الطبيعية للانسان التي هي حق الحياة وحق التملك وحق التحرر.
العراق بحدوده الحالية (التي اصبحت فيما بعد مقدسة) هو صنيعة بريطانية سعودية حيث ارسى حدوده الملك الراحل عبد العزيز بن سعود والمندوب السامي البريطاني السير بيرسي كوكس. ففي اتفاقية العقير التي تمت في ميناء العقير في 2/12/1922 فرض بيرسي كوكس حدود نجد مع الكويت وعين الحدود بين نجد والعراق ووزع القبائل بين من يتبع نجد وبين من يتبع العراق. يعني لوشاء كوكس لكانت حدود العراق غير حدوده الحالية وكان يمكن للجزء الجنوبي ان يتبع الى السعودية او المنطقة الشرقية من السعودية تتبع الى الجنوب العراقي وعربستان ويمكن ان تسمى هذه الدولة بالخزعلية (نسبة الى شيخ المحمرة الشيخ خزعل) اودولة المنتفج (نسبة الى أكبر عشائر الجنوب العراقي) أو سومر او اي اسم آخر كان سيصبح مقدسا ونريق دماء الآلاف لحماية حدوده.
وحتى حينما اقر مؤتمر القاهرة في 9/4/1921 المشروع الجديد لانشاء دولة عربية في العراق برئاسة الشريف فيصل بن الحسين لم تكن كردستان(بضمنها الموصل) جزءا منه, واعلن رئيس الوفد التركي الى مؤتمر لوزان عام 1923 با صرار ان سكان الموصل هم من الترك المسلمين بدليل انهم انتخبوا عنهم نوابا في المجلس الوطني التركي, لذلك حاول الاتراك احتلال الموصل بالقوة لكنهم انسحبوا منها واحيلت المشكلة الى عصبة الامم المتحدة فشكلت الامم المتحدة لجنة لدراسة المشكلة وقد أوصت هذه اللجنة بانشاء وطن قومي للكورد لأنهم كانوا يمثلون خمس اثمان السكان وقالت اللجنة ان الكورد ليسو عربا ولا تركا ولافرسا الا انهم قريبون من الفرس اكثر من قربهم للعرب او الاتراك لكن(ولسوء حظ الكورد) لم تأخذ عصبة الامم بتوصيات اللجنة فقررت ضم الموصل الى الاراضي العراقية 16/12/1925 بعد ان قبلت تركيا خط بروكسل. لم يقبل الكورد بهذا الانظمام وبدأوا نضالهم من اجل الأستقلال وقد استعملت بريطانيا مسألة الدولة الكردية كورقة ضغط على الحكومة المركزية العراقية العربية للاستمرار في الحصول على الامتيازات النفطية. ماذا كان سيكون شكل العراق لو شاءت عصبة الامم المتحدة تاسيس وطن قومي للاكراد في كردستان بضمنها الموصل؟ طبعا بالتأكيد عراقا غير العراق الحالي. وهل ستكون المطالبة بضم كردستان(الدولة المستقلة المفترضة) الى العراق بأكثر عقلانية من المطالبة بضم عربستان او الكويت او المنطقة الشرقية السعودية الى العراق حاليا؟
الذي اريد قوله هو ان التاريخ العراقي الحديث تاريخ دموي والسبب هو صراع المكونات الرئيسية الثلاث منذ بداية تاسيس العراق الحديث على يد بيرسي كوكس لأنه عندما رسم الحدود لم ياخذ بنظر الاعتبار المشاكل التي ستحصل بين الاقطاب الاثنية المتنافرة ولعله كان يعرف ذلك لكن اعتمد مبدا فرق تسد لانهاك الدولة الوليدة لضمان المصالح البريطانية وبريطانيا مشهود لها بزراعة بؤر اصبحت فيما بعد براكين ملتهبة لنزاعات اقليمية دائمة ككشمير واسرائيل.
ليست هناك قدسية لحدود لم يكن لنا راي بتحديدها. لقد تم اعادة تقسيم دول اوربا مرات عديدة فما الخوف من رسم مستقبل آمن لاطفالنا بدل الركض خلف سراب التعايش السلمي بين اثنيات اثبت التاريخ استحالة تعايشها بسلام في وطن واحد؟.
اذاما صوت الكورد باغلبية للأستقلال فيجب ان يعطى لهم ذلك الحق لان ضمهم للعراق بالأساس كان خطئا تاريخيا دفع ثمنه مئات الآلاف من الكورد والعرب في الصراع من اجل الاستقلال حيث لم يشعر الكورد انهم جزء من هذا الوطن منذ ان قررت بريطانيا الحاقهم بالعراق ولاأعتقد ان لأحد حق استمرار فرض هذا الواقع عليهم. اما السنة والشيعة فان صراعهم ازلي مستمر ونيرانهم قد تهدا بين الفينية والاخرى لكن جذوتها لم تنطفيء تماما فهي موغلة في الصدورمنذ وفاة الرسول (ص) فهل نحتاج الى اربعة عشر قرنا آخرى وعشرات الملايين من الضحايا لكي ندرك هذه الحقيقة؟
لعل تقسيم العراق الى ثلات فيدراليات او كونفدراليات او دول مستقلة سمها ما شئت, أي كيانات سياسية قادرة على نزع فتيل الحرب بين الشيعة والسنة العرب من جهة وبين الكورد والعرب من جهة اخرى لعله حلا يصنع السلام الذي ننشد فنندم على عدم تبنيه منذ البداية.
[email protected]