في سلسلة القرارات الأخيرة التي بدأ به عهده الميمون، ظهر السيد صباح عبيد اليوم كوال، وصاحب شرطة، وخائف على شرف الأجيال، وآمر بالمعروف وناه عن المنكر في إمارة فنستان السورية، التي بويع بولايتها مؤخراً، أكثر بكثير من كونه quot;نقيباًquot; للفنانين، ومشرفاً على الفن والإبداع السوري، الذي يستأهل، ربما، صدراً أكثر انشراحاً، وعقلاً أكثر تفتحاً، ورؤية أكثر شمولية، وأدوات أكثر مرونة في التعاطي مع شؤون الإبداع والفن والمبدعين، واضعاً، في نفس الوقت، سمعة الفن السوري، وتاريخه العريق الذي بناه رواد أوائل، وعظام معاصرون، في الميزان وعلى كف عفريت. وبداية نقول إذا لم يكن هناك سوى أفخاذ هيفاء، وصدر إليسا فقط، يسيء للوطن وللذوق والأخلاق والحس العام، فالدنيا بألف خير، وأبشر السيد النقيب بأننا ما زلنا على البر، وفي منطقة الأمان. وعلى رأي الفنان المبدع عادل إمام:quot; لو كل واحد عزل عشان اللي تحتيه رقاصة، البلد كلها ح تبات في الشارع يابيهquot;.
وقد بدا السيد عبيد وهو يتحدث في حلقة الاتجاه المعاكس الأخيرة في حواره مع الإعلامي السوري الدكتور فيصل القاسم، بدا متجهماً، وعبوساً قمطريراً طالعاً من الحقبة الديناصورية البلشفية معيداً ذاك التراث البائد، وهو يتحدث كجنرال يحارب quot;الإرهابquot; وquot;التطرفquot; وquot;التعريquot; والرأي الآخر وأشياء أخرى لا نعرف كنهها نحن الدراويش quot;الملطوعونquot; على quot;تكاياهمquot; النخبوية، وأبواب الله، متبنياً وجهة نظر تبدو متخشبة مغلقة ومحافظة وغير منفتحة، متناسياً مهمته الأساسية في تشجيع الفن والإبداع، وتنمية هذا القطاع الحيوي والهام الذي يعتبر كمرآة لصورة سورية اليوم التي تتصدى بمهارة عالية، وبكثير من القوة والحكمة والشجاعة والروية للكثير من التحديات الإقليمية والدولية والتي يبدو، حتى اللحظة، بأنها تحرز اختراقات لا بأس فيها في دائرة هذا الصراع الشرس والمتنامي.
ولن ندخل هنا في سلسلة التأنيبات المبطنة، والانتقادات المؤلمة اللاذعة، التي طالت مولانا السيد النقيب المجاهد بإذن الله، ولم يكن موفقاً في الرد عليها البتة، من قبل الصديق المتألق دائماً فيصل القاسم، ولا حتى من قبل الكاتب المسرحي المصري quot;التطبيعيquot; علي سالم الذي استطاع أن يحشر السيد quot;النقيبquot;، ولأكثر من مرة في الزاوية، إلا أنه كان يتهرب منها باللجوء لنفس ذاك الخطاب الدعوي المتحجر البائد العتيق، متقمصاً شخصية الوصي والولي المدافع والحارس الأمين على القيم والأخلاق والعادات والشرف والتقاليد. ولكن، وبالمجمل، يمكن القول إذا كانت موجة اللحى، والأصولية والنظرة الوهابية قد وصلت لقطاع الفن السوري، كما حدث في مصر، فعلى الدنيا، وعلى الفن السلام. وإذا كان تقييم الفن، وعلى الطريقة الأصولية إياها، لا يتم إلا من خلال الحجاب والجلباب والحشمة والوقار الكاذب والأفخاذ، وفي الشارع والواقع والحياة هناك quot;البلاويquot; والفظائع والعهر الذي تقشعر لها الأبدان، فسنكون عندها قد دخلنا ذات النفق الذي سيؤدي ولا محالة إلى إجهاض المواهب والإبداع، تماماً كما تتعاطى المؤسسات والفضائيات الوهابية مع مسألة الفن والإبداع والجسد بوقار زائف ممجوع ومفروض تدحضه بقوة الحياة اليومية والواقع المعاش. وإذا استمرت هواجس الجسد، والنظرة التقليدية حيال الكثير من السلوكيات اليومية والحياتية، وصارت فوبيا الجنس تتحكم بالنخب الفكرية والفنية، تماماً كما تفعل فعلها مع فقهاء الظلام، فأعتقد أنه من المستحسن أن نطلق على هذه القطاعات دوائر للمشيخة والإفتاء، ولا نتجنى مطلقاً على تاريخ وتقاليد النقابات، التي من المفترض أن تكون بؤراً تنويرية للعطاء والإبداع، تتناول شتى القضايا المطروحة بكل شفافية وموضوعية وحياد. طبعاً لا أحد يدعو للانحلال، والسوقية والبورنو والانحطاط، ولكن الجسد البشري، بكل ما يحتويه من روعة وفن وجمال وإبداعات وقوى كامنة يجب ألا يخضع لتقييم الجهلة والمعقدين ورؤية الفقهاء المبتذلة. ولا شك أيضاً أن هناك الكثير من الأعمال الهابطة والتي لا ترقى إلى مستوى المتابعة والاهتمام، ولكن تنمية الذوق العام، والابتعاد عن الكيدية، وتقديم كل ما هو جميل وسام عبر سلسلة ومنظومة منهجية من الأعمال السامية والفن الرفيع الخلاق قمين وحده بعدم quot;ضياعquot; الجمهور ووقوعه فريسة سهلة في أيدي تجار الميوعة والشخلعة وتجارة الأجساد إذا كان يمكن التحدث هنا عن ثمة ضياع.
سلسلة الفرمانات التي اتخذها السيد عبيد ضد الفنانات اللبنانيات هيفاء وهبي، وإليسا، بمنعهن من الغناء في سورية، طالت هذه المرة أيضاً، الفنانة السورية أصالة نصري بمنع غنائها في سوريا على خلفية تصريحات لها تنتقد فرمانات السيد النقيب، ويبدو أن الحبل على الجرار والقضية ما زالت تتفاعل، وهناك المزيد من الانتقادات والتحفظات والأصوات التي بدأت تعلو حيال تعاطي نقابة الفنانين مع قضايا فنية بحتة بتلك الشراسة الإقصائية وننتظر بالطبع مزيداً من الفرمانات حيال زملاء في المهنة والعطاء. وإذا استمرت ولاية هذا المجاهد العنيد بإذن الله لأربع سنوات أخريات، فلن نجد مواطناً، بعد الآن، يتجرأ أن يغني موالاً شعبياً لعلي الديك حتى في الخلوة والحمـّام عافاكم الله. كما دارت همسات وإشاعات عن منع أعمال الفنان السوري باسم ياخور من العرض على شاشة التلفزيون السوري، وليس تلفزيون كتامندو طبعاً، إلا أن السيدة ديانا جبور مديرة التلفزيون نفت هذا الأمر لاحقاً. وتعليقاً على ذلك نقول أنه لا دخان من غير نار وأن العقليات التي تجثم على هذه القطاعات الحيوية، وبمعظمها، وللأسف الشديد، كفيلة بمشيئة الله وتوفيق من عنده، بإجهاض هذه المسيرة الفنية السورية التي تتألق يوماً بعد آخر متحدية هذه العوائق والمنهجية البدائية في التعاطي مع الأشياء.
لقد حقق الفن السوري مؤخراً خطوات لافتة وتنافسية على الصعيد المحلي والعربي، ووضع مؤسسات فنية وعريقة خلفه بخطوات. ومن هنا، يجب ألا تعكر هذه المسيرة الناجحة تلك الفرمانات، والحركات القرعاء، على هذا الصعيد أو ذاك، ويجب ألا يتوقف quot;الأولياءquot; عند السفائف والصغائر، والكف عن عقلية الأستذة والوصاية، وتغطية السموات بـquot;القبواتquot; كما يقال، والتعامل بكل أريحية، وانفتاح مع الجميع. فالسوق، والذوق، والموهبة الأصيلة والأيام وحدها الكفيلة بفرز الغث من السمين، وليس قرار جائر لا يقدم ولا يؤخر، ولا يستطيع أن يمنع محبي ومريدي هذا الفنان أو ذاك من متابعته هنا أو هناك في عصر السموات المفتوحة والفضائيات والإنترنت حيث لا يجدي المنع والبتر نفعاً، إلا إذا كانت الغاية المحافظة على رمزية الفرمانات، وبعث تقاليد المنع والبتر والإقصاء، غير المجدية، من جديد. ولا بد، في النهاية، من إلغاء كافة هذه الفرمانات التعسفية، وعدم العودة لهذه الأساليب البدائية مطلقاُ، لكي تعود لقطاع الفن السوري وجهه المبدع الرحب الأصيل.
يرجى إرسال جميع المقالات الخاصة بآراء إلى البريد الجديد: [email protected]
التعليقات