العلاقات السودانية- اليمنية يتجاوز عمرها حادث انهيار سد مأرب الشهير عام 700 قبل الميلاد. من مسلمات التاريح السوداني ان الخراب الذي لحق بركائز الحياة اليمنية نتيجة هذا الحدث المزلزل تسبب في هجرات واسعة وصل جزء منها الي السودان بينما بعض المراجع العلمية تتحدث عن هجرات اقدم من جنوب الجزيرة العربية ومن منطقة حضرموت تحديدا وهذه يبقي من اثارها قبيلة الحدارب السودانيه التي تعود اصولها الي تلك الهجرات.
تزدهر هذه العلاقات وتذبل ولكنها لاتموت ابدا لانها تستقي من نبع الثقافة الزمنية والدينية المشتركه وتشابه المزاج اليمني ndash; السوداني فتظهر اثاره المحسوسة حسب السمات المميزة للمرحلة المعينه وبشخوصها البشرية. في العصر الحديث ابرز هذه الاثار كان هجرة مجموعات يمنية هربا من طغيان نظام اسرة حميد الدين القرووسطوي بعد عدة انتفاضات تبلورت تنظيميا وسياسيا خلال الاربعينيات في ماعرف في تاريخ اليمن بحركة quot; اليمنيين الاحرار quot;. وبينما اقامت قيادات الحركة، الارياني والنعمان، صلات مع بعض القيادات السودانيه وانتقلت بعد ذلك الي القاهره، استقرت مجموعات من هذه الهجرات في المدن وشقت طريقها في مجال تجارة التجزئه او البقالات حيث ظل quot; دكان اليماني quot; معلما بارزا في كافة ارجاء السودان الشمالي حتي الستينيات تقريبا.
في التاريخ الاحدث تجسدت استمرارية العلاقة السودانية ndash; اليمنيه في وفود مجموعات من طلائع المتعلمين اليمنيين للدراسة في السودان من ماسمي جنوب اليمن الذي نشأ نتيجة احتلال بريطانيا لميناء عدن اواسط القرن التاسع عشر لتأمين الطريق الي درة التاج البريطاني ( الهند ) ولم تلبث ان توسعت في الداخل اليمني لتمارس سيطرة فعلية علي رقعة واسعة اهمها منطقة حضرموت. من اسماء هذه المرحلة احد ابناء هذه المنطقه رحل عن عالمنا يوم 6 اغسطس الماضي اسمه فرج سعيد بن غانم. بعكس الطبيب اليمني الشمالي المعروف سودانيا نزار غانم، فان هذا الاسم لايعني الكثير الا لقلة من السودانيين ولكنه سيبقي في ذاكرتهم امادا واماد. من بين هؤلاء الذين زاملوه في جامعه الخرطوم وكلية الاقتصاد دفعة 1963 ودرجة الشرف عام 1964، واوائل القوميين العرب بالجامعة، واولئك الذين اتصلت حياتهم باليمن منذ السبعينيات. بن غانم هو في اغلب الظن اطيب ثمرات الغرس التعليمي السوداني في حضرموت، الجزء الاكبر والاهم من جنوب اليمن. بجامع وحدة السلطة الاستعمارية بين البلدين كان الشيخ القدال، والد المؤرخ المعروف بروفسور محمد سعيد القدال، قد تولي تأسيس النظام التعليمي الحديث في جنوب اليمن علي غرار النظام الذي كان مطبقا في السودان ( ثلاث مراحل كل منها اربع سنوات ) وبموجبه احتضن السودان بعضا من ابرز شخصيات اليمن الجنوبي مثل قحطان الشعبي، اول رئيس لجمهورية جنوب اليمن. واذا كانت مساهمة هؤلاء في ارساء دولة الاستقلال مشوبة بالتقلبات السياسيه العنيفة فأن دور التكنوقراط والاداريين بقي اكثر استمرارية وبالتالي اهمية. ولعل الشخصية التي يدور حولها هذا المقال ابرز هؤلاء رغم انها بدأت حياتها في المجال السياسي، فهذا قدر لامفر منه لاوائل المتعلمين في اي مجتمع. النظام المتبع كان اختيار الابرز من بين طلبة المرحلة الوسطي لتلقي دراستهم الثانوية في مدرسة حنتوب الثانويه يعودون بعدها لليمن لمدة عامين او اكثر للعمل في سلك التدريس ثم يلتحقون بجامعة الخرطوم، وان كان بعضهم التحق ايضا بمعاهد عليا ودرس بعضهم في بخت الرضا بمراحلها المختلفه بما فيها الكتاب، الابتدائية الان، مثل الملحق الثقافي لليمن الجنوبي في باريس اواخر السبعينيات الذي احضر الي بخت الرضا quot; من حضن امه quot; تلميذا في الكتاب، حسب قوله لصاحب المقال. هذا ليس غريبا فالحضارمه قوم هجره عددهم خارج اليمن اضعاف اضعاف عددهم داخلها واسلام جنوب شرق اسيا معظمه من صنعهم.
نفس الصفات التي جعلت فرج بن غانم الابرز من بين زملائه في الكليه، مزيج الذكاء والشعورالعالي بالمسئوليه، هي التي اهلته لدور يمني متميز. حصل علي بكالوريوس الاقتصاد بدرجة شرف بأعلي مستوي في دفعته وهذا مع سمعته الذهبية طوال فترة الدراسه دفع ادارة الكلية لمحاولة اقناعه بالبقاء استاذا بها ولكنه، علي اندماجه في الحياة السودانية الطلابية وغير الطلابيه وتقديره الكبير لايجابياتها، لم يفكر ابدا في مثل هذا الخيار. نداء حركة الاستقلال الوطني اليمنية كان مسيطرا علي تفكيره تماما. كاتب هذا المقال كان علي صلة وثيقة به نشأت بعد بضعة شهور من التحاقهما بالكليه عبر جريدة quot; الرائد quot; الحائطيه. صاحب المقال ومحجوب الشيخ البشير ( توفي عام 1970 من اسرة اشتهرت بالنباهه والده كان احد اساتذة كلية غردون وشقيقه احمد من اميز القضاة السودانيين ) كانا قد اصدرا الجريدة كأول منبر للاتجاه القومي العربي في تاريخ الجامعه فنزلت بردا وسلاما علي فرج وزميله في كلية العلوم حسين بارباع اذ كانا قد كتبا لزملائهما في اليمن قبلها متحسرين بأن : quot; القومية العربية صفر في جامعة الخرطوم quot;. بحكم وجود بدايات نشاط بعثي في اليمن منذ الخمسينيات استقي كاتب المقال بعض معارفه الاولي بحزب البعث من فرج بن غانم وانتهي الامر بالاثنين معا اعضاء في اول خلية بعثية بجامعة الخرطوم كان مسئولها الطبيب فيما بعد حسن احمد عبد الهادي، اول سوداني انتمي للبعث رسميا. لم تدم علاقة الرفيق الفاتح، الاسم الحركي الذي اعطي لفرج بن غانم، بالبعث في السودان طويلا بسبب حساسية وضعه في وسط طلابي يفور بالنشاط العدائي ضد انقلاب 58، بينما المبعوثون اليمنيون كانوا موظفين في ادارة التعليم تشرف عليهم رسميا السفارة البريطانية.
علي ان نصيب بن غانم من المتاعب كان ينتظره في اليمن حيث تطورت الامور في اتجاه سيطرة حزب بأسم quot;حركة القوميين العرب quot; مناوئ للبعث كلية، علي قيادة حركة الاستقلال الوطني. وبعد عودته لليمن بثلاث سنوات كان هذا الحزب المنتمي الي نمط الشموليات اليسارية السائد عالمثالثيا وقتها بشعار من ليس معنا فهو ضدنا قد استلم دولة الاستقلال ايضا، وازداد هذا الطابع الشمولي حدة مع تحوله الي النهج الماركسي فوجد بعثيو جنوب اليمن انفسهم في مياه ساخنة موزعين بين السجون والمنافي الا من رحم ربك. فرج انقذته من مصير رفاقه كفاءته كأقتصادي واداري التي لاتخطئها العين مهما اعماها السخط، وحرصه هو علي تقديم الوطني علي الايديولوجي. شغل مناصب عليا في القطاع الاقتصادي لجمهورية اليمن الجنوبي مستكملا دراسته العليا الي الدكتوراه في بولندا وعندما اتحد شقا اليمن عام 1990 اختير وزيرا للتخطيط وبعد ذلك بسبعة اعوام رئيسا للوزراء لاقل من عام حيث استقال وبقي بعد ذلك مندوبا دائما لليمن في المقر الاوروبي للامم المتحدة في جنيف حتي وفاته. استقالته من رئاسة الوزارة كان بسبب عدم التزام رئاسة الجمهوريه بوعدها عدم التدخل في اختصاصاته. وهذه الشجاعة الادبية كانت احدي مميزات شخصيته ومعها ميزتان اضافيتان جعلتا من المستحيل استمراره في المنصب هما اللاقبليه والنزاهه. فكافة الاطراف اليمنية تتفق علي ان الافة التي تعطل بناء اليمن الحديث هي استشراء النفوذ القبلي والفساد، بقدر اتفاقها علي توفر نقيضهما في شخصية فرج بن غانم.
هل تحتاج كلية الاقتصاد في جامعة الخرطوم الي سبب اقوي من هذا لتثبت لوحة في مكان بارز بأسمه ؟ سؤال مطروح ايضا علي الزميلات والزملاء دفعة 63- 64.
[email protected]