1
يترجّع القلبُ سطراً سطراً خطط الطفولة، المُستلة من مجلد العمر ؛ ثمة، أينَ كانت خفقاته الأشدّ ألقا والأقلّ قلقا. زمنٌ مضى، بأحلامه وآماله، بأتراحه وإحباطاته ؛ زمنٌ، لايكفّ العمرُ عن مناجاته، عبْرَ الذاكرة المتشظية حجارتها ـ كأسوار حصن ٍ مَرهون ٍ للإستباحَة. الأعرابيّ ، كان يقول : quot; حصني حصاني quot; ؛ وها أنذا أرددُ، أنْ أعيدوا لي حصان ذاكرتي !.. كيما أستعيد عبْره العمرَ الأول، في ذروة زهرته ـ كأوان الصبّار الشاميّ، المُنصاح بمشامه ورخائه.

2
رجوعاً، رجوعاً أيهذا القرن الآفل ! كيما أجدني في منتصفك، المُفتقد، المتبوّج هلالاً أو فلقة قمر. خمسة عقودٍ من العُمر، مضَتْ مذاك سُدىً، هباءً ؛ ثمة، أينَ كان على الزمن السعيد، المتلأليء، أن يبقى واقفاً متشامخاً، لا يتزحزح ـ كشجرة الزيتون في منزلنا الأول.

3
quot; عثرنا عليكَ، يوماً، في أفياء هذه الشجرة! quot;، تقولُ الأمّ لطفلها، الأثير، في كل آونة يشتط فيها عبثه أو يتمادى بمطالبه. لا غروَ، إذاً، أن تمحض الطفولة مقتها للزيتونة ؛ هيَ التي كانت، علاوة على ذلك، ذات ثمار مرّة. لم يَعنِكَ آنئذٍ تلك الهالة من القداسة، المحوّطة شجرتنا ؛ وأنها أمّ حديقة الدار، ومن غرس جدتنا لأبينا ، التي لا بدّ ومنحت الثمار بعضاً من زرقة عينيها : وما فتئت الزيتونة ، أيها الطفلُ الخمسينيّ !، الملاك الحارس لمنزلنا القديم.

4
الثمار المرّة للزيتونة، غدَت وعلى حين فجأة حلوة المذاق ـ كالعسل. هذا ما تراءى مرة ً للطفل، في منام ليلة ما، لن ينساه قط : كان بالقرب من ذلك القدر الهائل، النحاسيّ، المنذور خصوصاً لجَني فاكهة الحديقة، والمضروب بنطاق من أفراد العائلة الآخرين، المنشغلين بتمحيص غلته الوفيرة، حينما أومأت إليه إحدى ثمار الزيتون، أن إقترب أيها الولد ! يالله، ما كان أشدّ دهشته، وغبطته، لما تناول الثمرة تلك، فوجدها قد إستحالت بين أصابعه، الرقيقة، إلى بلحة شهية. وما لبث إثر قضمها، أن مدّ كلا ذراعيه نحو القدر، غائصاً رويداً في لجة ثماره، هاتفاً بنشوة سكرى : quot; لستُ في حلم، لست في حلم! quot;.

5
هلا أفقتَ من غفوتك ، المنقطة بشهد المنام، يا طفل الدار، المدلل ! هيَ ذي الشجرة، بإنتظار إطلالتك المصافحة، ما برحتْ في ركنها، المكين، عندَ كتف الحديقة ؛ وكأنما هيَ جنحها الأيسر. ليكن بينكما صلح، هذه المرة، بعلامة الحلم ذاك، ولتنسَ ما تضمره لها من ضغينة ؛ أنتَ من كنت دوماً تتساءل : quot; لمَ لمْ نحظ بشجرة نخيل، بدلاً عن هذه الزيتونة الملعونة؟ quot;.

6
النخلة ليست من نصيب دارنا، وإن كانت نصبَ بصركَ الطفوليّ، على أيّ حال. ثمة، في منتصف الزقاق تماماً، إنتهضت تلك الشجرة السامقة، الغريبة الشكل، في حديقة منزل المرأة الأكثر شهرة بين نسائنا. آنذاك، ما كنا لنعرف أنّ quot; دلال quot;، بدورها، متغربة ـ كنخلتها. لتكن ما إتفق لها من أصل وفصل، فما يهمنا هوَ نيل بلح شجرتها، الأصفر، المائل نوعاً إلى البنيّ في ذروة النضج. فليكن العزم في أفئدتنا بقدر ما برجل الدار من عجز ؛ هوَ نصفُ المشلول، ومن لا تأبه عصبة سطونا بتلويحة عصاه ولا بشتائمه، المقذعة، فيما هيَ من سطح لآخر مشغولة بالإغارة على النخلة وهز سعفها بقوة، كيما تتساقط الثمار الرطبة جهة الدخلة الخلفية، ليتلقفها لداتنا بأذرعهم الصغيرة، الدقيقة.

7
لتكن تأريخاً ، أيّها المكانُ السفحُ، وليكن طفلنا من يَصفكَ.
على الجبل عرشُك، والبيوتُ الأعشاشُ، رعيّة . ها أدركَ وليدنا لغزَ توسّطه المحفل العائليّ، فلم ترتفع عبثا في وجه السماء، غضاضة يده : أمْ أنه لغز برجه، quot; العذراء quot;، المنذور لللنزق والنقد، والنقاء أيضاً ؛ برج وليدنا، المختصرُ مشهدَ ذلك النهار، الخريفيّ، من الثاني من أيلول، البليل، وصيفاً ملولاً مغادراً للتوّ، وفي جيب بنطاله القصير، حبلٌ سريّ ـ كوديعة.

8
لتكن راوية ً، إذاً، يا طفل الخريف.
لترو لنا حكاية quot; يزيد quot; في رحلته، الدائبة، من quot; الصالحية quot; إلى quot; البدوي quot;، يروي بمياهه المخضرة بساتيننا الطفلة، المادة نحو الأم، quot; الغوطة quot;، أنامل حورها الفضيّ : إنه إبن quot; قاسيون quot;، أيضاً ؛ هذا المشغول عنه وعنها بمصائد يشغلها بقنب الأرباب لغيماتٍ تتيه فوقَ سفح ٍ، لا ربّ له سوى النهب.

9
ليكن نهبٌ.
لتمض ِ طفلاً رقيقا، خفيفا ـ كريشة، إلى بستان عمّك ؛ quot; بستان الملك quot;، منتهباً وشقيقك الأكبر، العتيّ، شجرَ المشمش الكلابيّ والبلديّ وخوخ الدبّ والبلديّ والتوت الشاميّ والبلديّ والجوز الأخضر والزعرور والزعبوب والميس والتين والرمان والدراق والدرابزين والكمثرى والكرز والتفاح. لا يأبه وقع خطوكما على ممرات quot; الغيضة quot;، السحرية، لقريصها المبثوث ـ كألغام غادرة ؛ ولا لإشارات quot; حَرْحَش quot;، الناطور الأصمّ، المتهددة، والمثيرة مرحَ العمّ في جلسته الرخيّة ورفقته، الأثيرة، حول quot; المصطبة quot; ؛ جنة البستان، المُطوَقة بحرته المربّعة، المتسعة، بأشجارها المثمرة وصبّارها وخمائلها وعارشاتها وزهورها وطيورها وحضورنا.

10
لنكن حضوراً، مدمّراً.
بعيداً عن العين اليقظى للناطور الآخر، quot; حسينو دقوري quot;، المرعب، الواقف على شؤون وقف آل quot; شمدين آغا quot; ؛ سيمضي تجوالنا ثمة، في بساتين quot; الدايرة quot;، الأشبه بجزيرةٍ متشكلة من دوران الجدول، المتفرع عن النهر، عند مروره بالـ quot; الجوزة quot; ، وحتى مصبّه على مشارف quot; الباب الصغير quot;. هناك، بين الصبح والعصر غالباً، تمرّ عاصفة عصبتنا، النهّابة، محيلة ً إلى مناهب وإستباحاتٍ وخرابات، أرزاقَ الضمّانين، الصوالحة ؛ من مزارع وبايكات واهراءات. فلا يأتي المساء، إلا ونحنحة العمّ، الغاضب، في دهليز الدار، تستنفرُ الأخَ الأكبر، المتهيئ للواقعة سلفاً، إلى قفزة فرار شاهقة خللَ الفتحة المفضية إلى منزل جارنا quot; حمّوكي quot;، مسبوقة بصرخة الأمّ، المرتاعة. quot; لقد مرّ quot; جينكو quot; من هنا تواً، ولم ينسَ أن يحيينا ! quot;، تقول الجارة الطيبة، متضاحكة، مطمئنة ً عمّنا، المصفرّ، المتسائل قلقا.

11
لا هاوية أسحَقُ من جسارتكَ، يا شقيقي، ولا خرافة.
فلتقدنا قدُماً، حيث شاءتْ أهواؤك وغاراتكَ، من مساكب الحقول إلى مغر الجبل، وعبرَ جادّات quot; الأكابر quot; التي محضتَ دوماً أبناءها أحتقاركَ وإزدراءك ؛ أولئكَ الذين، بالمقابل، لفظوا إسمك quot; جنّو quot;، توهماً من كون صاحبه إبناً للجان ! وما كان، بطبيعة الحال، ليدور في ذهنهم وقتئذٍ أنّ المفردة الأخيرة تلك، إنما هيَ إحدى إشتقاقات مصدر quot; الجنون quot; ؛ أنكَ ستوغل في متاهة العقل ولم تجاوز العشرين من عمرك ؛ أنتَ من إنهالت على دماغه ضربات الجلاد، هناك في مسلخ quot; تدمر quot;، الصحراويّ، منذ ثلاثة وثلاثين عاماَ عاراً.

* مفتتح لصفحات في السيرة، بعنوان quot; مَراجعٌ من مُجلد العمر quot;، قيدَ التحقق

[email protected]