إن من أهم ما يغيب عن بال فصائل المعارضة السورية العربية منها تحديداً، بتياراتها العلمانية واليسارية والدينية والقومية، يتمثل في الواقع التعددي الذي يتصف به المجتمع السوري على صعيد المكوّنات التي تشكل نسيجه الوطني، فهي لا تقر عن قناعة بواقع تكوين المجتمع السوري من قوميتين أساسيتين هما العربية والكردية. كما أنها لا تأبه لواقع وجود المكونات القومية الأخرى (منها على سبيل المثال لا الحصر: السريان والأرمن والشركس والچاچان والتركمان والآشوريين...) التي تمثل في نهاية المطاف وحهاً حيوياً من أوجه الحياة السورية.
ومن الملاحظ أيضاً أن الفصائل المعنية لا تريد أن تتناول مسائل التعددية الدينية والطائفية الموجودة في سورية التي كان من الفروض أن تكون موضع الاعتزاز والتباهي من قبل السوريين جميعاً على اختلاف انتماءاتهم. فالانتماء العربي الشعاراتي - وليس الوطني السوري الواقعي- هو الأساس بالنسبة إلى جميع السوريين، وذلك وفق الذهنية اللاتاريخية التي كرسها حزب البعث، والعربية بهذا المعنى متقدمة على الدين والطائفة وعلى الانتماءات القومية الأخرى. هذا ما نصت عليه المبادئ الأساسية لحزب البعث التي تحولت بعد عقود طويلة من الحكم البعثي إلى مسلمات أقرت بها مختلف الفصائل المعارضة التي لم تتمكن بعد من التحرر من وثنية الشعارات، الأمر الذي كان سيمكنها - فيما لو انجر- من وضع برنامج وطني شامل، يحترم الخصوصيات، ويفسح المجال أمام الجميع للإسهام في نهضة عامة، بموجب عقد وطني جديد، يحدد الحقوق والواجبات، بعيداً عن نزعات الاستئثار والهيمنة والإقصاء؛ وهي نزعات أسس لها حزب البعث بعد عمليات التصفية التي جرت بين أجنحته المختلفة؛ وانتهى به الأمر ليكون مجرد واجهة لزمرة تلتحف بالحزب والطائفة. وهكذا أبعدت المكوّنات الأخرى، أو أجبرت على السير في مدارات هامشية من دون أية حقوق أو امتيازات، سوى ما يتبجح المهيمنون بإغداقها عليها، في صيغة مِنّة ربانية، تستوجب - وفق المنطق المهيمن- الحمد والتسبيح ببركات المبجل الملهم.
فالكرد كانوا إلى عهد قريب غير معترف بوجودهم حتى من قبل أقطاب المعارضة الذين كانوا يتبارون مع البعث في ميدان التمسك العصبوي بالقومية العربية بوصفها - وفق منظورهم- رباط عنصري جنسي، بل وروحي مقدس، وفي حالات المجملة إطار ثقافي ستوعب ويلغي كل الثقافات الأخرى. وأي انتماء مخالف يتمنّع على الصهر القومي إنما هو دخيل معاد، لابد من إقصائه، وحتى إبعاده عن الوطن الذي تخيّله البعث نظرياً، واستغلته الزمرة المهينة عملياً للإطباق على الوطن المشخص.
وبعد انتفاضة الثاني عشر من آذار 2004 التي كانت ردة فعل جماهيرية مشروعة، شملت كردستان سورية بأسرها، وامتدت إلى المدن السورية الكبرى، خاصة دمشق وحلب؛ ورددت المهاجر الكردية في شتى أصقاع العالم صداها، وتفاعلت معها. تبين للجميع أن المشكلة هي أكبر من المتخيل، وتأكدوا من عدم جدوى سياسة الإهمال والإلغاء؛ فكانت سياسة الاحتواء والمجاملة التي لم ولن تعزز الثقة، ولن تتحول إلى ركن ثابت في المشروع الوطني المطلوب، طالما انها تفتقر إلى المصداقية، وتعجز عن إزالة الهواجس، ولا تسعى من أجل تعزيز الثقة المتبادلة بعقل وقلب مفتوحين، لا يخضعان للإرهاب الفكري البعثي، ويلتزمان النَفَس الوطني الأصيل، القادر على استيعاب الجميع على أساس عادل من الاحترام المتبادل.
ولعله من المناسب هنا أن نشير إلى إعلان دمشق الذي يظل خطوة متقدمة مقارنة مع ما سلف؛ لكنها خطوة ناقصة محدودة، لم تتمكن من استقطاب الموقف الكردي التوّاق من ناحية إلى التفاعل مع الموقف العربي، والعمل معه على قاعدة الثوابت الديمقراطية التي تستوجب مراعاة الخصوصيات، وتمكين الجميع لإسهام في المشروع الوطني. وما أضعف الإعلان المذكور الهش أصلاً تشخّص في تجاهل الموقعين عليه من الأطراف العربية للدعوات المخلصة التي طالبت بإعادة النظر في الموقف من المسألة الكردية التي تظل جزءاً هاماً من المسألة الوطنية الديمقراطية في البلاد؛ هذا في حين أن الحركة الوطنية الكردية المعارضة تُعد قياساً إلى نظيرتها العربية، حركة حيوية واعدة، قوية بجماهيرها، وبعدالة قضيتها؛ القضية التي لم تتمكن غالبية فصائل المعارضة السورية بعد من التعامل معها بعيداً عن أسلوب الوصاية، والتشنج، والفهم السطحي. فالفصائل المعنية ما زالت ترفض العودة إلى حقائق التاريخ والجغرافيا لتدرك أن المسألة الكردية في سورية هي حصيلة التقسيمات الاستعمارية القسرية التي شهدتها المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى. وهي تقسيمات ألحقت الضرر البالغ بالكرد قبل غيرهم، إذ قسمتهم بين دول أربع تختلف من جهة اللغة والثقافة والتطور الاقتصادي والاجتماعي. ولكن حتى التقسيمات الاستعمارية المعنية، والاتفاقيات المنظمة لها، قد تنبهت لحقائق إنسانية، باتت لاحقاً موضع إنكار البعث الذي تفتقت عقليته العنصرية عن إجراءات اضطهادية، ندر اعتمادها من قبل أكثر النظم عنصرية في العالم. ونورد في هذا المجال على سبيل المثال، ومن باب المقارنة، ما ورد في البند الثالث عشر من اتفاقية فرانكلين بويون التي تم بموجبها تقسيم الحدود بين تركيا وسورية، وهي الاتفاقية الأساسية التي ألحقت جزاءاً من كردستان بسورية الدولة القائمة في يومنا هذا. فقد ورد في البند المذكور ما يلي: quot;سيكون من حق السكان المستقرين وأنصاف المستقرين الاستفادة كالسابق من المراعي وتملكها على جانبي خط الحدود المشار إليه في المادة الثامنة. من أجل تأمين مستلزمات الانتفاع المذكور سيكون بإمكان هؤلاء الانتقال عبر طرفي الحدود بحرية مع قطعان حيواناتهم وأدواتهم وآلاتهم ومنتوجاتهم، بالإضافة إلى ما يحتاجون إليه من بذار من دون أن يدفعوا أية رسوم جمركية، أو تلك التي تخص المراعي، وسيدفع هؤلاء الضرائب لتلك الدولة التي يتبعونها (بصورة رسمية) من دون دفعها للدولة الأخرى التي يتنقلون إليها بصورة مؤقتةquot;.
وهذا فحواه أن الاتفاقية الاستعمارية المعنية لم تتنكر للواقع مع انطلاقها من مصالح القوى المقسمة بطبيعة الحال، لكنها ذهبت إلى ضرورة الإقرار بالواقع التاريخي السكاني للمنطقة، واعترفت لهم بحرية الاختيار والتنقل. ولكن مع مجيء الحكومة الوطنية، تم التنصل من كل ذلك، بل تم إخضاع الكرد لسياسة اضطهادية مستمرة، تبناها البعث بحرفيتها، وأضاف أليها الكثير مما استلهمه من مبادئه الأساسية التي تتقطر عنصرية ورفضاً لحقوق الآخر المختلف. وبناء على هذا التوجه غير السوي اللاتاريخي، تبنى حزب البعث نتائج الإحصاء الاستثنائي، وقام بسلب الأراضي من الكرد، وخطط ونفذ مشروع الحزام. ومارس سياسية التعريب الشمولي، واتخذ الكثير من الإجراءات اللامعقولة الظالمة لإلحاق الأذى بالكرد، وذلك من جهة إبعادهم عن المعاهد الدراسية والاختصاصات الدقيقة، والوظائف الحكومية، خاصة الممتازة ووظائف الدرجة الأولى التي لا نصيب للكرد فيها، سوى أولئك الذين باتوا جزءاً من الجهاز الحاكم، وحتى هؤلاء - الذين لايمثلون سوى قلة قليلة محدودة تكاد لا تذكر- ينظر إليهم بعين الشك والريبة من قبل المشرفين على سياسة التمييز القومي في سورية.
أما الحقوق القومية، فلا وجود لها على الإطلاق في قاموس البعث الذي يعتقد جازماً أن كل حديث عن مثل هذه الحقوق إنما هو حديث مؤامراتي لا بد من اقتلاع مروجيه.
لكن الغريب اللافت هو ما يتجلى في الموقف المعارض الذي يتجاهل الواقع القائم؛ وهو تجاهل مقصود على الأغلب، لا يمكن تفسيره عبر التذرع بنقص المعلومات أو تقصير الكرد في التعريف بقضيتهم. وإنما هو استمرار لنهج عقيم لم يؤد سوى إلى تكريس روحية النفور والتحسب والتشكيك؛ وكل ذلك يساهم في تكوين وضع غير طبيعي ما زلنا نعاني من آثاره على كل المستويات. ولتجاوز التبعات السلبية لكل ذلك، لابد أن تتخلى الفصائل السياسية المعارضة عن ترددها، وتعتمد الجرأة الوطنية أداة تمكّنها من الاعتراف بالوقائع، وتتيح لها إمكانية بناء العلاقات الوطنية مع مختلف الفصائل السورية بانتماءاتها المختلفة على قاعدة الاعتراف بالخصوصيات، وحق التعبير، والإقرار بحقوق الجميع على قدم المساواة في الإسهام في الحياة السياسية لبلاد عبر كل السلطات بصورة تعكس الوحدة الوطنية الفعلية، لا تلك الشكلية الزائفة التي تروج لها زمرة الهيمنة التي قطعت أوصال البلاد، وبنت بين جميع المكونات حواجز نفسية ضاغطة، باتت بموجبها هذه الأخيرة بمثابة الجزر الهائمة على وجهها، لا تعرف أي تواصل حقيقي مع المكونات الأخرى، بل تنتهي الخطوط جميعها عند الأجهزة الأمنية المتغلغلة في مفاصل الحياة العامة والخاصة للبلاد؛ أجهزة تمتص كل الامكانيات، وتتصرف بالبلاد وقدراتها أملاكاً شخصية، أجهزة تدين الجميع، وتطلب منهم اثبات البراءة، وتهدد كل من يتمرد على توجهاها، أو لا يتناغم مع رغباتها وأوامرها المعلنة أو المضمرة، بالتخوين، وهذا مؤداه الإلغاء الوظيفي أو الفيزيائي إذا سنحت الفرصة.

[email protected]