ثمة منظومة فكرية قدّمها العرب والمسلمون، خلال تاريخهم الإشكالي والدامي الطويل، والممتد منذ ألف وأربعمائة عام، والذي يتفاخرون به كإنجاز فريد، ويعتبرونه، كبديل مقدس، ووحيد ولا غنى عنه البتة، وعلى حد زعمهم، لمجمل التراكم الفكري والفلسفي وخلاصة التجريب الإنساني العظيم، لم تفلح في خلق مجتمع وردي ومثالي كما يروج بعض الحالمين المخدرين، أو في إيجاد صيغة منطقية وتكاملية ثابتة تحكم العلاقة بين الإنسان والواقع وشتى المشكلات التي تعترض سير حياته. بل ظلت، في الغالب، ترتكز على أسس متغيرة وقابلة للتحول ومتبوعة حصراً للمصلحة والحساب السياسي، ووفقاً لأهواء ورغبات من تصادف أن وقف على رأس الهرم السياسي. وقد أسهمت الإشكالات النصية الكثيرة والمبهمة أحياناً، وتوابعها السياسية الخلافية، في غوص العرب والمسلمين في لجة عميقة، ولا قرار لها من الجدل والصراع المرير على صغائر ومواقف كانت في الغالب دنيوية، ولم يتم حصول أي إجماع عليها حتى يومنا هذا. ومن هذه الخلافات والاختلافات في الرؤى ووجهات النظر انبثقت الفرق quot;الضالةquot; وquot;المارقةquot; وquot;الرافضةquot;، وتقلصت الفرق quot;الناجيةquot;، إلى فرقة واحدة، لا ثان لها، ولا أحد يعرف، بالآن، وبالضبط، من هي، وإن كان الكثيرون ينسبون أنفسهم إليها بكل يسر وبساطة ويـُخرجون الآخرين من كل ملة وإيمان ودين ويقين وينعتونهم بأشنع الألفاظ والأقاويل.

لقد فاقمت تلك الإشكاليات النصية والتفسيرية والرؤيوية من حدة الانقسامات والخلافات في المجتمعات العربية والإسلامية إلى حد فـُصمت فيه كلية عرى المجتمعات، وتحللت فيها إلى طوائف هزيلة وملل ونحل متناحرة وعصبويات فئوية وقبلية وعشائرية متباغضة، وتآكلت كل مفاهيم الوطنية والوحدة المجتمعية والانتماء. وازدادت سطوة الجهلة ونفوذ التكفيريين وعمليات التخوين المتبادلة المنطلقة من كل حدب وصوب، وانتهت معها وإلى الأبد، وبحمد لله وفضل منه، أسطورة الأمة الواحدة القائمة على أساس واحد توافقي متين. والأنكى من ذلك هو ذاك الإصرار على التمسك بتلك quot;الثوابتquot; الافتراضية والمنطلقات الفكرية الغيبية التي لم تثبت جدواها ونجاعتها في بناء مجتمع سليم، ولم تفلح لا في بناء إنسان معافى ولا قويم، ولا إنتاج حضارات ومجتمعات يمكن لها أن تصمد في وجه عوامل التمدد العولمي المتغول، يمكنها من أن تنافس في هذا السباق الدولي العظيم، بل تخلفت وصارت في أسفل السافلين، اجتماعياً، واقتصادياً، وسياسياً، وفي شتى الميادين. وتتجلى تلك الدعوات بالرفض المطلق الغريب لكل ما هو مستحدث وجديد على الفكر الإنساني، أو الأخذ بأسباب النهوض الحقيقي بالتوازي مع إصرار مذهل وعجيب على البقاء في دائرة تلك المجاهيل المظلمة والمناخات المتجمدة وترديد نفس تلك الترانيم، وتقديس ذات الأقانيم. وهذا بالضبط ما يفسر هذا الخوف المشوب بالتوتر من الآخر وثقافته التي يبدو أنها بدأت تسيطر وتثبت جدواها وتأتي على ما تبقى من مصداقية الفكر التقليدي القديم. وطالما أن تلك الثوابت لم تحقق أية نتائج ملموسة تنعكس خيراً ورفاهاً فلا يعرف بالضبط السر الكامن وراء التمسك بها اللهم سوى استمرار الأوضاع الراهنة المزرية على ما هي عليه إلى أبد الآبدين بما في ذلك من مصلحة كبرى لقوى النهب والتشليح والتجويع.

والخطر الأكبر للفكر الغيبي هو في تخطي الواقع بشكل اعتباطي وتجاهله، ورد كل الظواهر الحياتية الضاغطة ومتناقضاتها الحادة وأوضاعها المزرية، كالفقر والجوع والاستغلال والظلم والاستعباد والفقر، إلى رغبة ربانية سامية لا تجوز المجادلة فيها أو النقاش حولها. وأن مصير الإنسان مقرر ومقدّر في عوالم بعيدة لا أرضية لا يملك حولها لا حول ولا قوة ولا سبيل لتغيير الواقع إلا برغبة سماوية وما عليه إلاّ الاستسلام، وأن السلطات الحاكمة هي مرسلة ومباركة من السماء ولا تجوز مساءلتها، ولنا أن ندرك حجم الخدمات الجليلة التي يسديها مثل هذا الافتراء والاستهبال لاستدامة البغي والظلم والطغيان وتشريعه. كما أثبت الفكر الديني عجزه وعدم قدرته على حل أبسط الطبيعية التي لا تحتاج، فصلوات الاستسقاء مثلاً، لم تنجح البتة، ولم تكن الحل في استمطار السماء وإيتاء الغيث لأراضي المقدسات الصحراوية والتي تنعم بقحط وجدب وجفاف مزمن، فيما تغرق بلاد بوذا بالأمطار، وحتى الفيضانات على مدار العام، وإن كان الإسلامويون يردون ذلك إلى غضب من الله لا علاقة له، طبعاً، بظاهرة النينيو، أو الاحتباس الحراري الذي بات يغير من مناخ الكرة الأرضية برمتها ويشكل تهديداً جدياً لها.

وفي أدبيات الخطاب الديني المعهودة، وبكل ما فيها من تبسيط وتجهيل وتسطيح، كلام كثير وكبير عن فضل العرب والمسلمين على العالم، وأن كل علوم الغرب والمخترعات الحديثة كانت بفضلهم وقبل أن يكتشفها، وquot;يلطشهاquot; هذا الغرب الملعون الماكر فيما بعد وأسس بناء عليها أعظم الحضارات قاطبة في تاريخ البشرية. وحوّل رجل غريب الأطوار والأطروحات مثل زغلول النجار القرآن إلى كتاب للفيزياء والكيمياء والعلوم الطبيعية وعلم الفلك والرياضيات والمثلثات والهندسة الفراغية، وأن كل مسائل الكون وحلولها موجودة فيه. وهذا الطرح الغريب في حقيقته لا يخلو من إساءات كثيرة وجارحة بحق لعرب والمسلمين أنفسهم، وينطوي على مغالطات إن كان ما يقوله صحيحاً، لأن الأمر يعني فيما يعنيه بأن المسلمين، وبكل بساطة، جاهلون بما لديهم وبما في كتابهم من كنوز علمية، ولم يستطيعوا أن يكتشفوا تلك الأسرار العلمية العظيمة الموجودة بين أيديهم منذ بضعة عشر قرناً حتى أتى الكفار واكتشفوها لهم، وأن قراءتهم للقرآن لا تتعدى مجرد استظهار وتلاوة شفهية بدون إدراك لقيمته العلمية الكبيرة التي عززتها اكتشافات الغربيين.

وما إن تتفتح عيون الطفل في هذا الصقيع المهترئ على هذا العالم حتى يحقن بالحقد والكراهية ضد الآخر عبر الموروث الديني المليء بالخلافات والجدل البيزنطي العقيم والأقاويل والأباطيل، ويحاط بكل ذاك التراث الأليم من الفرقة والانفصام والتشتت والاقتتال والثأر العنيف، ويدخل عندها في متاهات من التضليل والتخريب والتشويه النفسي بحيث لا يعد قادرأً على التكيف مع الواقع والمحيط وأقرب المقربين. وتتشكل لديه قناعات راسخة عبر ذات الضخ والحشو التعبوي القميء بتفرده وعصمته وبأفضليته على الآخرين وأحقيته بالتالي بالوصاية عليهم واستعبادهم والنظر إليهم من منظور فوقي استعلائي عنصري بغيض وبما يترك ذلك من أثر سلبي وعدم ثقة وتفاعل مع المحيط الخارجي.

إن أي احتكاك للقيم البدوية والقبلية والعشائرية والفكر الغيبي مع المفاهيم الحداثوية والعقلانية المنطقية المعاصرة التي توصلت لها البشرية بعد تجارب ثرية، سيفضح، ولا شك، القيم والمفاهيم والرؤى الثقيلة العاجزة والمتحجرة ويعريها وينسف أسس وجودها. ومن الجدير ذكره أن شعوبنا المؤمنة المنكوبة تتكئ في حياتها، ومصدر عيشها، ووجودها، وأمنها الذاتي على أولئك quot;الكفارquot; وquot;الملحدينquot; الذين لا تكف عن شتمهم آناء النهار وأطراف الليل الطويل. ولو كانت تلك البني المعرفية والقيمية التي يصر أصحابها على إعادة إنتاجها قد أفلحت في تحقيق أي نوع من الرفاه، والازدهار، أو جلبت لهذه الشعوب أي نوع من الأمن والسلام الاجتماعي، لما كنا نجد غضاضة أو حرجاً البتة في إظهار إيجابياتها وضرورة تعميمها على بقية سكان الكوكب الأرضي للنهل منها، ولما تجرأنا على الاقتراب منها، أما وأنها على هذا الحال الوضيع، ويريد البعض إسباغ نوع من التفضيل والتقديس عليها، فهي ستصبح ولا شك مرمى للنقد والتجريح من الجميع.

لقد صدق من أوصى صاحبه بألا يجادلهم بالقرآن فهو حمال أوجه، والفكر الديني يحفل بالكثير من المناطق الرمادية والتي يصعب الوصول فيها إلى محددات واضحة المعالم. فهنا مثلاً، دعوة للجهاد والقتال وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، وهناك دعوة للمهادنة وللسلام والإيثار والهدنة والتطبيع. وهذا فصل ومثل واضح عن التسامح وفضل النسيان، وآخر، ليس ببعيد عنه، عن ضرورة الثأر والانتقام واستباحة دماء الآخرين تحقيقاً لرغبة ومشيئة ربانية. وهنا نرى الله رؤوفاً عادلاً ورحمناً لطيفاً رحيماً، وهناك نراه مقتدراً جباراً قهاراً ومهيمناً وخير الماكرين، فعلى أي جانبيك تميل؟ وعلى هذا المنوال يمكن إيجاد الكثير من المتناقضات التي يحفل بها الخطاب الديني والتي تستخدم وتستغل لأغراض دنيوية خاصة تسبغ على التجاوزات السياسية والانحرافات السلوكية العامة طابعاً من الملائكية وهالة من التقديس، وأن كل ما يتم هو وفق ورضا الفقه الغيبي. وأن هذا الفكر صالح، فعلاً، ودون مبالغة، لكل زمان ومكان بسبب من quot;مرونتهquot; الفائقة، وعدم حسمه للكثير من المسائل، وإجابته على الكثير من الأسئلة المهمة والملحة بعقلانية ومنطق، بحيث صار يمتطي صهوة الدين أي مغامر طامع متشاطر ويدلي بوجهة نظره في أعقد المسائل الحياتية إشكالية مستنداً على أسانيد مروية وهشة في التراث والتاريخ. إنها المتاهات الكبرى التي لا يخرج المرء منها بأي جواب شاف وعليل.
[email protected]