من قتل ناجي العلي؟
حاول جميل الشعث، في مقالته بصحيفة إيلاف الإلكترونية الأسبوع الماضي، إلصاق جريمة إغتيال الشهيد ناجي العلي بالراحل ياسر عرفات تارة، والغمز من قناة الشاعر محمود درويش تارة أخرى، مستشهدا بإنتقادات ناجي للأول وخلافه مع الثاني كأدلة إتهام (!) وكأن ذلك الخلاف كان الأول والأخير في الساحة الفلسطينية،وكأن قاتل الفلسطيني هو فلسطيني بالضرورة، فلا صراع ولا حرب ولا احتلال ولا موساد... هذا ما يريد أن يقنعنا به الشعث وغيره ممن رددوا هذه المعزوفة المّملة منذ اللحظة الأولى لسقوط الشهيد ناجي العلي، قبل عشرين عاما.

محمود درويش لم يكن يمتلك ميليشيا أو جهاز أمن في يوم من الأيام، ولم يكن أبدا، نافذا في السياسة أو حتى في الأدب،إنه رجل كلمة وفكر وإبداع، أُقحم في العمل السياسي عنوة وسرعان ما عاد إلى قاعدته ومجاله الحيوي: ألشعر.. معارضا ومقاوما ومبدعا، في آن.

لقد إختلق الكاتب مصدرا فلسطينيا وهميا ليتكيء عليه ويمرر ما يحلو له من فبركات (أتحداه أن يكشف عن مصدره) وليبريء جهاز الأمن الخارجي الإسرائيلي ( الموساد)، وأنا لا أتهم إسرائيل اعتباطا أو على طريقةquot;الاستعمار هو المسئولquot; بل بناء على وقائع ازعم أنني إطلّعت عليها، كمتابع لجريمة اغتيال الشهيد منذ اللحظة الأولى، فالمرحوم صديق وزميل جمعني العمل به لثلاث سنوات في صحيفة القبس، وكنا كزملاء ومحبين للشهيد نتابع كل ما كانت تنشره الصحف البريطانية يوما بيوم منذ لحظة الاعتداء الآثم عليه في الثاني والعشرين من يوليو وحتى الوفاة في التاسع والعشرين من أغسطس 1987، حين أسلم ناجي الروح، وهي الفترة التي امتدت لثمانية وثلاثين يوما.

لقد تجاهل الكاتب حقيقة أن القاتل كان عميلا مزدوجا للمنظمة ولإسرائيل، أي أن الإتهامات مقسومة مناصفة بين المنظمة وإسرائيل، نظريا على الأقل،كما أن الكاتب يجهل أو يتجاهل حقيقة أن رئيسة الحكومة البريطانية آنذاك مارغريت تاتشر،قررت بعد انتهاء السلطات البريطانية من التحقيق مع القاتل( وهو من المواطنين العرب داخل إسرائيل)، إغلاق ملف القضية وإبعاد المتهم إلى إسرائيل(وليس إلى تونس!)، وإغلاق مكتب الموساد في لندن (وليس مكتب منظمة التحرير!)،هذه وقائع نشرتها صحيفة quot; صنداي تايمزquot; اللندنية في حينه، علما بأن هذا المكتب ظل مغلقا حتى أواخر عام 1997.

ثم هل يعقل أن يُخلى سبيل القاتل لو كان من يقف وراءه عرفات أو طرف فلسطيني؟ أو حتى أي طرف غير إسرائيلي؟!

لقد كان المرحوم ناجي العلي ينتقد رجالات المنظمة وعرفات تحديدا في كل يوم من خلال رسوماته في جريدة القبس،التي لم يكن مبناها يبعد اكثر من 10 كيلو مترات عن مكتب المنظمة أو مكتب فتح، وكانوا يوجهون له التحذيرات ويبعثون له التهديدات باستمرار بشتى الوسائل ومنها المبعوثين الشخصيين وكنا نشهد ذلك في القبس بأنفسنا ولم يكن المرحوم ليعبأ بهم، ولكنهم لم يحاولوا إلحاق أي أذى جسدي به، طوال أكثر من عشر سنوات كان في متناولهم، حتى أن عرفات إشتكى، ذات يوم في عام 85( على ما أظن )، ناجي العلي لرئيس تحرير القبس السابق الأستاذ محمد الصقر، وما كان أسهل عليه أن يلجأ لأسلوب آخر أكثر عنفا في الاحتجاج على رسومات ناجي وكان قادرا على ذلك، حيث كان المرحوم يمارس حياته اليومية ببساطة ويقود سيارته من منزله في منطقة حولي، إحدى الضواحي القريبة لمبنى الصحيفة، دون حراسات أو إحتياطات أمنية، وكان بوسعهم ndash; لو أرادوا تصفيته آنذاك- أن يدّبروا له حادث سيارة، كما كان يحدث كثيرا في عالمنا الثالث،ولا ينتبه إليه أحد، مع أن الكثير من عناصر الأمن والحراسة التابع لحركة فتح في الكويت آنذاك، كان يحمل السلاح، وكان يمكنهم الوصول إلى ناجي والتخلص منه بسهولة.

هذا الكلام قد لا يفهمه جيدا إلا من كان مطلعا على نفوذ وقوة منظمة التحرير في الكويت خلال الثمانينات، حيث كان أسهل عليهم ألف مرة اغتيال الشهيد في الكويت بدلا من تدبير عملية إغتيال معقدة في لندن.

أخيرا، لا ادري لمصلحة من ترديد مثل هذه الاتهامات في كل عام تحل فيه ذكرى استشهاد ناجي العلي، يرحمه الله.

إن دم الشهيد ناجي العلي ليس أداة لتصفية الحسابات الشخصية والسياسية، وهو أغلى من أن يستغل في حرب داحس والغبراء الفلسطينية الحالية. لقد رفض ناجي العلي كل الإغراءات والضغوط لتسخير ريشته لصالح هذا الطرف أو ذاك في الحرب الأهلية اللبنانية، وغادر إلى الكويت كي لا يُقحم في تلك الحرب، وأظن أنه كان سيوبّخ كل من يستغل دمه في الحرب الأهلية العدمية الدائرة على كل مستوى في غزة، هذه الأيام.

إنه لأمر مؤلم أن توجّه هذه الاتهامات المبطنة للشاعر محمود درويش في الوقت الذي يمنحه مهرجان الشعر العالمي في مقدونيا، جائزة quot;الإكليل الذهبي quot; التي تعتبر من أرفع الجوائز الأدبية على مستوى العالم. لقد صدق الشاعر الراحل نزار قباني حين قال : نحن أمة تتفنن في قتل كل ما هو جميل فيها !