لوحات كثيرة كانت منتشرة فى بغداد وخارجها وقد كتب عليها: التصوير ممنوع منطقة عسكرية. يضحك منها المطلعون على بواطن الامور اذ يعلمون جيدا انه ليس هناك ما يمكن ان نخفيه عن الأعداء فهم مطلعون على كل حركاتنا، ويعرفون بدقة مالذى نستورده من الخارج وماالذى نصنعه وخاصة السلاح واين يخبأ. الجاهل الوحيد هو الشعب العراقي الذى يمنع من تصوير المنطقة، بينما الأقمار الصناعية والجواسيس تراقب كل شيء. وأكاد اجزم بأن هذه الظاهرة المضحكة تنتشر فى كل البلدان العربية وجمهوريات الموز. فى عام 1957 أخذت أحد أصدقائي (ألماني الجنسية) لزيارة مشروع الثرثار قرب سامراء، وأخذ صديقى يصور الجسر، فسمعنا جنودا يصيحون: ممنوع ممنوع!. أصر الضابط على ان يخرج صديقى الفلم من الكاميرا لاتلافه. وسألت الضابط باستنكار عن السبب فقال انه لديه امرا بمنع التصوير وخاصة من قبل الأجانب. فأشرت بأصبعى الى لافتة من قماش كتب عليها: انشاء شركة زبلن الألمانية. خجل الضابط ولكنه أصر على مصادرة الفلم.
فى عام 1948 وعند اعلان دولة اسرائيل، قررت ادارة المدرسة المتوسطة التى كنت فيها ان يقوم التلاميذ بمظاهرة، وتولى ذلك معلم الرياضة. اتجهنا نحو البرلمان القديم ونحن نهتف
لفلسطين ونشتم الاستعمار. ولما وصلنا البرلمان صرخ بنا المعلم طالبا السكوت ثم طلب منا ان نردد هتافاته: يسقط الدب ستالين (روسيا)... يسقط ترومان (أمريكا)... يسقط تشرتشل (بريطانيا). وبقينا نردد هذه الهتافات حتى بحت أصواتنا وعدنا الى المدرسة بعد ان أسقطنا الدول العظمى الثلاث!!!. بعد عودتى الى البيت أخبرت المرحوم والدى بما جرى فضحك وقال بأن هذا الأمر ليس بالجديد عليه فقد شاهد فى شبابه مظاهرة تردد شعار: فرنسه وانكلتره والقندره.!!! كما انه شاهد فى طفولته مظاهرة اخرى عند وصول الجنرال مود البريطانى لمشارف بغداد اثناء الحرب العالمية الأولى، وكان هتاف المظاهرة: بارودنا عند العجم... وطوابنا هسه تجى. ولمن لا يعرف اللهجة العراقية: مدافعنا ستأتى قريبا!!!.
قبيل بدء حرب الخليج الثانية (90/91) ظهرت على شاشة التلفزيون المذيعة الأمريكية (دايان سوير) فى مقابلة مع صدام الذى قال لها بأن العراق سينتصر على أمريكا اذا ما نشبت الحرب، فذهلت المذيعة وتساءلت فى دهشة بالغة: العراق سينتصر على أمريكا؟. أجابها صدام بأن الله معنا ومن كان الله معه سينتصر، وان امريكا ستخسر لانها مع الشيطان!!!. وأضاف ان امريكا لا تتفوق علينا الا بقوتها الجوية وان الطائرات عمرها ما حسمت حربا!!!!. صعقت عندما سمعت كلامه العجيب وقلت فى نفسي: لقد ضاع العراق، وتذكرت ان ذلك الكلام قيل من قبل جنرال بريطاني فى الحرب العالمية الأولى، ونقله صدام حرفيا بعد مرور ثمانين سنة. ترى من هو الأكثر حماقة: صدام أم من لقنه هذا الحديث البالى؟ وكرر صدام نفس الخطأ بعد حوالي 13 سنة، وفر هاربا عند دخول الجيوش المتحالفة لمدينة بغداد. والمجموع أصبح ثلاث حروب دمرت العراق تدميرا مريعا وسنحتاج لعقود طويلة لأصلاح الخراب، كل ذلك لأن القائد (الضرورة) لم يدرك التغييرات التى طرأت على الدنيا خلال ثمانين عاما بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى.

مصيبتنا اننا تعودنا المكابرة والاستخفاف بغيرنا والتقليل من شأنه، ربما كان ذلك بسبب كذب قادتنا علينا حينما قالوا لنا بأننا دولة لا تقهر وان جيوشنا وأسلحتنا تفوق جيوش الأعداء، واننا الأقوى والأشجع والأشرف واننا فوق كل البشر، وتوزع علينا الكتب التى تشرح ماضينا التليد حينما وصلت جيوشنا حدود الصين شرقا والمحيط الأطلسي غربا واخترقنا اوروبا شمالا وأخضعنا شمال أفريقيا لسيطرتنا. ربما كان كل ذلك صحيحا ولكنه كان فى الماضى السحيق. أما عن حاضرنا التاعس الذى نعيشه مقارنة بالدول الغربية والبون الشاسع بيننا وبينهم فى كل المجالات، فيحاول القادة اخفاءه بالصراخ والزعيق والسباب وتهديد الغرب بالويل والثبور وعظائم الأمور، متجاهلين اننا نستورد من هؤلاء (الكفرة) كل شيء ابتداء من ابرة الخياطة وليس انتهاء بالصواريخ. نستورد منهم الأدوية لمعالجة مرضانا، ونبعث اليهم أولادنا ليتعلموا فى جامعاتهم، وفى نفس الوقت نبعث لهم معممين ليغيروا دينهم. نبنى الجوامع فى بلدانهم وبمساعدات مالية من حكوماتهم، ونمنعهم من بناء الكنائس فى بعض بلداننا. وفى العراق نفجر الكنائس، ونعتدى على حرمتها فى بلدان عربية اخرى. يرسلون الينا المهندسين والعماريين ليساعدونا فى بناء بلداننا ونبعث اليهم الانتحاريين لتخريب بلدانهم. أين العدالة فى ذلك؟ تحدث مشاكل وخلافات بين الدول وخاصة بين الدول المتجاورة، ولكن اللجوء الى القوة لن يحلها بل يعقدها وتذهب الضحايا ويحل الخراب، وفى كل الأحوال يعود السلام. الجسوروالمباني يمكن ان يعاد بناؤها، ولكن هل يمكن اعادة الموتى أو انماء الأطراف المبتورة؟ الحروب مهما كانت فهي أشد مآسى البشر. الأجداد عرفوا ذلك وسموها: الكريهة، وقال شاعرهم:
وان النار بالعودين تذكى... والحرب أولها الكلام
فان لم يطفها عقلاء قوم... يكون وقودها جثث وهام
لا ينكر ان الغرب هاجمنا مرات عديدة ونهبونا وفعلوا بنا ما يفعله كل الغزاة فى تلك الحقبات من التأريخ، ولكننا فعلنا نفس الشيء ضدهم و كنا نحن البادئين فى أغلب الأوقات. فى الحرب العالمية الثانية دحرت ألمانيا واليابان واحتلتا من قبل الحلفاء، ولم تمضى سوى سنوات قليلة حتى أصبحت هاتان الدولتان من أعظم القوى الأقتصادية فى العالم، ونسي الجميع الحرب ومآسيها، وانشغل علماؤهم بالأبحاث والمخترعات والاكتشافات، فحصل تطور مذهل فى كل المجالات، ويكفى ان ننظر الى تطور الكومبيوتر وأجهزة الاتصالات وهى غيض من فيض. وأين نحن من كل هذا؟ استفادت بعض دولنا من ايرادات النفط وعمرت بلدانها ورفعت من مستوى سكانها. والدول الأخرى منها من بقيت تراوح فى مكانها، كالعراق مثلا، وبعد ان كان فى المقدمة أصبح متخلفا عن الركب لأن حزب البعث استولى على الحكم وملأ الدنيا صراخا وضجيجا بشعار (وحدة وحرية واشتراكية)، وقائدا فذا جرنا الى حروب مدمرة ثلاث أعادتنا الى العصر الحجري. تخلصنا من الحزب وقائده المقدام، وحصلنا بدلا منهم على عشرات الأحزاب ومئات القادة، ومعظمهم لا تهمهم الا مصالحهم الخاصة، وطالما كانت جيوبهم عامرة منتفخة فالبلد بخير. أما مئات الألوف الذين قتلوا ومئات الألوف من اليتامى والأرامل والمعوقين الذين لا يجدون قوت يومهم ولا يجدون حتى الماء الصالح للشرب، وملايين المهجرين الذين نهبت ممتلكاتهم، فأجرهم على الله.