كتب شاكر النابلسي في مقاله الأخير على quot;إيلافquot; : quot; خريف الدكتاتوريات في الشرق الأوسط quot;، في الجزء الثاني منه :quot; ظل حزب البعث العربي الاشتراكي (معظم قادته من كبار الإقطاعيين والرأسماليين الذين ظلوا محتفظين بمكانتهم العشائرية والإقطاعية طول نشاطهم بالحزب كأكرم الحوراني) إلى أخره..
في الواقع وحتى لا نتهم الأستاذ النابلسي بالمعلومات غير الدقيقة عن تاريخ وتطور الحياة السياسية في سورية، نريد فقط توضيح ما ذكره في مقاله عن المرحوم الأستاذ أكرم الحوراني الذي لم يشفع له مرضه ولا المنفى السياسي أمام تسطيح شاكر النابلسي لكل الأفكار و القضايا التي تتعلق بسوريا والتي ناضل من أجلها أكرم الحوراني. وللتذكير أن الأستاذ النابلسي يطلق الكلام هكذا في الهواء من غير عناء البحث أو الرجوع ولو خمسة دقائق إلى تاريخ سورية، بالتحديد، قبل، وما بعد الاستقلال مباشرة.

قليل من التاريخ
ولد أكرم الحوراني في عام 1914 وفق بعض المصادر السورية ( انظر موسوعة السياسة للكيالي)، و عام 1911 وفق ( كتابات حمدان حمدان عن الحوراني). توفي والده مريضا مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وكان هذا الأخير وفق ما اجتمعت عليه المصادر السورية، على علاقة جيدة مع الناس وينتسب لعائلة أسست quot; الطريقة الرفاعيةquot; وكانت من الأسر المتوسطة حتى بدايات القرن العشرين. لم يعرف عن تربية الحوراني سوى احترامه لمن حوله و التقيد بقيم العائلة التي تربى عليها. ( انظر كتابات حمدان حمدان). وكان ابن عم الحوراني quot; عثمان الحورانيquot; من الثوار المعروفين ضد الاحتلال الفرنسي.
درس أكرم الحورانيquot; الثانويةquot; في دار العلم و التربية، انتقل بعدها إلى دمشق ليتم الدراسة بما كان يسمى آنذاك quot; مكتب عنبرquot; وذلك في عام 1930، و هي ثانوية تابعة للحكومة السورية. كان في مقدمة جميع المظاهرات ضد الاحتلال الفرنسي في مدينة دمشق. درس أكرم الحوراني الطب لسنة واحدة في الجامعة اليسوعية في بيروت، ليغير رأيه ويعود لدراسة الحقوقquot; في معهد الحقوقquot; جامعة مشق. ( يمكن العودة هنا بالإضافة لحمدان حمدان، إلى كتاب فيليب خوري quot; سوريا و الانتداب الفرنسي، القومية العربية والسياسةquot;. تخرج الحوراني من الحقوق وعاد إلى مدينته حماة وكأن لديه الكثير من الأفكار السياسية عن سوريا ومستقبلها. في عام 1939 كان أكرم الحوراني زعيما لحزب quot; الشبابquot; وهو حزب ركز عمله ضد الإقطاع والانتداب الفرنسي، على عكس ما يذكر شاكر النابلسي وبكل عبثية في مقاله.
( في حديث مع أحد أصدقاء الحوراني وهو مسيحي سوري، أكد لي أن المسيحيين في بعض الأرياف السورية تحدثوا عن أكرم الحوراني وكأنه quot; ظهور للمسيحquot; عندما بدأ حملته ضد الإقطاع و من أجل رفع الظلم عن الفلاحين).

هل كان أكرم الحوراني إقطاعيا أو رأسماليا ؟
لا يمكن الحديث عن النضال ضد الإقطاع في سورية من غير الحديث عن أكرم الحوراني ودوره الكبير في محاربتهم. هذا إذا لم نقل بأن الحوراني مؤسس لفكرة النضال المنظم ضد الإقطاع في سورية، ومن هنا جاءت شعبيته الكبيرة في الأرياف السورية بمختلف أطيافها العقائدية ( الطائفية). وحتى لا نبقى في إطار الحديث العام، ننتقل إلى ممارسات الحوراني العملية التي تنسف أفكار شاكر النابلسي والتي تستند إلى نظرة غير دقيقة وحكم مسبق يفتقد المراجعة، حال الكثير من كتاباته عن سورية.
في أول تجربة سياسية له، شكل الحوراني لائحة انتخابية ضد اللائحة الإقطاعية في مدينته. وبعد صراع كبير بين القائمتين اضطر شكري القوتلي للتدخل على رأس لجنة مصالحة، انتهت بانضمام الحوراني كحل وسط إلى لائحة quot; الكتلة الوطنيةquot; ليجد نفسه فيما بعد عضوا في البرلمان، حيث كان الأصغر سنا من بين النواب ( 30 عاما). تركز عمله في المجلس على المطالبة بإنشاء جيش وطني مستقل، إلغاء الإقطاع في سورية، و إنهاء الانتداب الفرنسي ( يمكن العودة إلى كتاب باتريك سيل quot;الصراع على سوريةquot; والتأكد من نضال الحوراني ضد الاحتلال الفرنسي سياسيا وعسكريا، وللعلم أن باتريك سيل هو من كتاب سيرة الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، وليس سيرة أكرم الحوراني).حتى نهاية الأربعينات لم يكن هناك حزب في سورية يسمىquot;حزب البعث العربي الاشتراكيquot; بل كان quot; البعث العربيquot;. ونتيجة لمواقف البعث من المسألة الاشتراكية والاستعمار، التقى مع حزب quot;الشباب الاشتراكيquot; بزعامة الحوراني.
الأستاذ شاكر النابلسي يقدم خلطة غريبة عجيبة للبعث وقياداته، فالقيادات إقطاعية رأسمالية بالنسبة له، ونطلب منه هنا أن يقدم لنا لائحة بأسماء هذه القيادات quot;السورية فقطquot; التي يمكن تصنيفها ضمن هذه الفئات، على الأقل منذ تأسيس البعث وحتى الانقلاب العسكري في 8/3/1963 . وهنا سأستحضر تحليلquot;حمدان حمدانquot; في كتابه ( أكرم الحوراني رجل للتاريخ) لشخصيتي ميشيل عفلق وأكرم الحوراني كإشارة على أن القيادات البعثية بعد اندماج الحزبين كانت مختلفة في كل شيء، حيث كان المؤلف يعرفهما عن قرب:
أكرم الحوراني : ( وضوح في الرؤية السياسية، مرونة في النظرية وتطبيقاتها في المنظمة السياسية، ديناميكي ـ حركي، المجلس النيابي وسيلة لبلوغ الثورة الاجتماعية بالتشريع، انخراط مع طبقات الشعب الأوسع، مروحة واسعة من التحالفات، جرئ ومشاكس، دعم الإصلاح الاجتماعي).
ميشيل عفلق ( الرؤية السياسية رمادية، تقديس للنظرية وصرامة التراتبية الحزبية، بطئ، مترو،مترقب، التغيير عن طريق الانقلاب الشامل، انخراط مع النخبة الشعبية المثقفة، الغايات لا تبرر الوسائل، خجول، منطو، يؤثر العزلة، حذر ومتخوف من العلاقات مع الجيش بصورة دائمة).
في المجلس النيابيquot; البرلمانquot; كان لأكرم الحوراني إنجازات مازالت قائمة حتى اليوم في المجتمع السوري، ولو أن معظم الشباب على الأقل في سورية للأسف لا يعرفون كلمتين عن هذه الشخصية السورية الوطنية بكل المقاييس.تقدم أكرم الحوراني في عام 1949 وهو في البرلمان بقانون جديد يعطي حق الانتخاب للمرأة بدءا من 18 عاما بدلا من 21 عاما، على أن تكون حاصلة على الشهادة الابتدائية. ونتيجة لذلك جن جنون رجال الدين، واتهم بالرجعية السياسية والبدع في الدين ( وهنا أسال الأستاذ شاكر النابلسي عن محاربة الرجعية في سورية لإصلاحات quot; الإقطاعي و الرأسماليquot; أكرم الحوراني، و النابلسي يقدم نفسه ليبراليا عربيا مدافعا عن الفكر الليبرالي، كنت أتمنى عليه أن يطلع على مؤسسي الأفكار الليبرالية في سورية من السياسيين قبل أن يطعن فيهم).
في وزارة الزراعة والإعلام، أصدر الحوراني قرارا بتأسيس quot; لجنة لإصلاح وتنظيم الأراضي الأميريةquot; والتي تبنت تحسين أوضاع الفلاحين والحفاظ على الثروة الحراجية والحيوانية ( أي إقطاعي هذا الحوراني). ثم عمل على توزيع الأراضي المزروعة التابعة للدولة في كافة أنحاء البلاد، و أرسل بعثات خارجية للتخصص في المسألة الزراعية. وفي عامي 1950 ـ 1951 نشط الحوراني بشكل كبير في تنظيم الفلاحين في مختلف المحافظات السورية، رغم معارضة الإقطاعيين له بكل الوسائل، حتى أنهم عقدوا مؤتمرا في محافظة حماة يضم زعماء الإقطاع والهدف تبني خطة لمحاربة الأخطار التي يشكلها الحوراني على الإقطاعيين. وبعد انتهاء المؤتمر وزع الإقطاعيون المنشورات التالية : ( سلام على الماركسي المزور أكرم الحوراني)، ( إلى عميد الحزب الشيوعي المستتر أكرم الحوراني)، (الاشتراكيون والردة على الإسلام).

إذا الأستاذ شاكر النابلسي وصف الحوارني بالإقطاعية والرأسمالية من غير أن يقرأ عنه حرفا واحدا. حتى من الناحية المعرفية كيف يمكن أن يكون الإنسان إقطاعيا ورأسماليا في منطقة لم تعرف لا النظام الإقطاعي ولا الرأسمالي، وهنا يمكن الرجوع إلى كتابات سمير أمين لزيادة الإطلاع على أوضاع هذه الفئات في المشرق العربي.
لقد اعتبر الحوراني أن عمله الحزبي يعتمد على نمو الوعي وتحسن المعيشة لدي الفلاحين( كما يذكر حمدان حمدان ). من هنا جاء انعقاد أكبر مهرجان فلاحي في الشرق الأوسط على يد الحوراني في شمال مدينة حلب كما ذكرت وكالة رويتر في 20 أيلول عام 1951، وكان شعار المهرجان quot; لا إقطاعية في سوريةquot;. وفيه دعا الحوراني لتحديد الملكية عن طريق إقرار دساتير تؤسس لقيام الاشتراكية لا في سوريا فحسب بل في الوطن العربي كله. وقد جاء في كلمته آنذاك :quot; أيها الفلاحون، أنتم حجر الزاوية في هذه الأمة وفي تطوير بنائها، لقد عاث الإقطاعيون فسادا في هذه الأرض، وهذا هو ما يعمل له الأجنبي و الصهيوني، أن نظل في التخلفquot;. هل يستطيع شاكر النابلسي بعد مرور 56 عاما على مؤتمر الحوراني أن ينظم مؤتمرا مشابها في الأردن مثلا أو أي دولة عربية أخرى. أما في الإعلام، يقول الأرشيف القومي الأمريكي وفق الوثائق التي تحمل الرقم ( 983ـ 61/ 5ـ 250) :quot; الحوراني يريد أن يتبنى مسارا تحرريا في النشاط الإعلاميquot;.
يذكر أن أكرم الحوراني كان من الفدائيين الذين حملوا السلاح في وجه إسرائيل ليس من قصوره وإقطاعياته،أو نظّر لليبرالية من واشنطن، بل من أرض فلسطين، وقد كتب من هناك :quot; إنني واثق حتى النهاية، بأن المعركة هنا، أكثر شرفا من أية معركة أخرى وفي أي مجال آخر..إنني أستنكر ألا يحمل أي مواطن أو مواطنة معوله و رفشه وحتى سكين مطبخه ولا يتوجه إلى الحدود الفلسطينية، إلى أرض فلسطين، إذ ماذا عنا تقول الأمم ونحن نستخف بتراب وطنناquot;. ( من كتاب حمدان حمدان).
ويقول الدكتور فيصل الركبي في مذكراته :quot; مع نهاية شهر كانون الأول، تمكن الحوراني من جمع العديد من الرجال ( حوالي 300) وقد اجتاز الحدود مع رفاقه في الثامن من كانون الثاني 1948، من منطقة الحدود اللبنانية الجنوبية، راشيا، مرجعيون، صور، عيتا الشعب وجبا، و كان معنا الدكتور عبد السلام العجيلي النائب في البرلمان السوري وآخرونquot;.
في النهاية، يمكن كتابة الكثير عن الأستاذ المرحوم أكرم الحوراني، ولكن اكتفينا فقط بالحديث عن اتهامات شاكر النابلسي فيما يتعلق بانتماء أكرم الحوراني الطبقي. و أفضل كلمة يمكن أن نتذكر فيها الحوراني اليوم هي : وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر.