(ما ذنبي وأنا اصوركم) بلزاك

حين يضيق الوسع يحشر الناس انفسهم في الدوائر الصغيرة. لسنا بحاجة الى تحليل عميق وفك الغاز لمعرفة ما نحن فيه، وما نعيشه من معانات نكدة. التاريخ في كينونته توجّت دائرة وجوده باكتمال اليافه عبر الصيرورة التي لوت عنقه في مساراتها ودروبها.
لسنا في بداية التاريخ لنفك الألغاز ونكشف الجواهر والاسرار. هذا على مستوى الفضاء الاجتماعي/السياسي، ولا يشمل التقرير الجوانب الاخرى من الحياة وخصوصاً في مجالات العلوم الطبيعية والحياتية.


نحن ما نحن فيه من بؤس وشقاء وحزن. نعيش وكأننا نجرّ الحياة تعاسة وكدّاً متواصلاً وراء ظهورنا.
واللافت في جريانات الفوضى/المقت المتكالب علينا وفينا، تلك العصبيات الهوجاء التي ترفرف راياتها في ساحات الوغى الكثيرة التي انزلت اسعار الأحياء منزلة البضائع الزهيدة!
اندر الأشياء في حياتنا المضطربة كشرقيين الهدوء والعقلانية. نحن ابناء التاريخ الذي تراكم فوق ظهورنا، والذي اخرجنا من دائرة صناعة التاريخ، فبقينا معلّقين بين كوننا مخلوقات عاجزة عن الابداع وبين كوننا بشراً نبتغي حياةً أكرم وأكثر لياقة بالانسان.
وفوق كل ذلك تتضرم فينا نيران العصبيات الكثيرة ولا تستكين في مطبة او نائبة او رزية، وليس لها بدّ من قرار.


مفردات من قبيل: الوطنية، القومية، الاسلامية، الحزبية، المدنية، الديموقراطية، العيش المشترك، قبول الآخر المختلف... تتكرر في حياتنا يومياً ما لا يمكن فرز ذلك حسابياً.
ولكن كل ذلك يعكس مدى تفكك بنياننا واضطراب الانسجة في علائق المكونات المختلفة في عالم الشرق.
كل دائرة من دوائرنا الحزبية، القومية، الدينية، الوطنية وما الى ذلك تستحوذ على قاموس كبير من تلك المفردات الفضفاضة، لكنها حين تتناكب في معمعة السياسة، في وقائعها الحيوية، تتوثب كغارات القطعان المتوحشة: ضمناً يرفض كل لون من هذه الألوان الألوان الأخرى.


منذ ما يقارب قرناً كاملاً وصراعات كثيرة تلتهب في منطقتنا، بين دول ومعارضات، بين شعوب وقوميات واحزاب وطوائف وتكوينات دينية وعلمانية وأخرى غيرها.


الصراعات أكلت من اكتافنا وافخاذنا ونهشت اوصالنا. العداوة هلهلت وجودنا وزلزلت كياناتنا ورمتنا اجساداً ضعيفة لعوامل التعرية والتلاشي.
لكن من عجائب الدهر فان سْوق المفردات الفضفاضة والأوهام القاتلة من انشط ما يكون في بلادنا مقارنة بارجاء المعمورة.
الاسلامي ينتشي اوهام انتصارات غابرة، وأخرى مقبلة حسب الروايات التاريخية. وهو بذلك متكأ على قناعات راسخة لا تقبل التغيير في المحتوى، ان التاريخ سيكون كما هو يذهب اليه، واخضاع منطقه الأحادي لامتحان السؤال والتجربة يغدو مرفوضاً. ومن الرفض المذكور يبني الاسلامي رفضه وقبوله للاشياء وفق انسجامها وتنافرها مع منطق فهمه هو للتاريخ. العَلماني على نفس المنوال وكذا القومي والوطني والسلطوي. ليس ذلك تعميما مطلقا، فلا يخلو الامر من المحمود ولكننا نصف كينونة الشرق بسواده الأعظم.
وكلّما تغمقت ممارسة الجماعات العديدة في بلادنا للسياسة، تزداد تعقيدات أخرى على ما نعاني اصلاً من فوضى ودمار. المصلحية الفئوية والفردية، والتنافس من اجل الاستيلاب والاستحواذ على السلطة والموارد، وركوب الشهوة والارتجال لتمضية الأيام والشؤون هنّ مهرجانات صاخبة ومكلفة في نتائج الحساب الشرقي ومقاديره.


نحن اليوم نتنافس على كعكة ليس لنا سوى فتاتها (للغرب معظمها وتلك قسمة ضيزى). وفتات كعكة الشرق كلها هي ملك مقدس لأهل السلطة (الأحزاب والحكومات) التي تمتطي صهوة القوة والشهوة على أحصنة القومية، الوطنية والدينية و...
ومن الجلبة المذكورة سواء حصلت الطبقات الدنيا على النزر اليسير من فتات الكعكة ام لا، فالشعوب والجماهير المداسة باقدام خيول المفردات تلك وسياساتها وصراعاتها، تمسي وقوداً لجحيم العصبية المقيتة الدائرة علينا.
التقيت في كُردستان العام الماضي ببعض الأخوة العرب السنة. كان من بينهم (مثقفون) يتباهون برجال المقاومة وان لدى طائفتهم انتحارييون يندر وجودهم لدى الآخرين، وعليه فان المستقبل لهم من دون شك، وسيخضع الكُرد والشيعة لحكمهم مرة أخرى! في استراليا التقيت بعرب سنة افصحوا عن قناعتهم هذه، فتيقنت انها اصبحت عقيدة راسخة لديهم في ظل الصراع والفوضى. والأمر مأساة ان يعلق الانسان آمال مستقبله على الانتحاريين والذين يطمسون الحياة!


التقيت بالكثيرين من الشيعة ومعظمهم غارق في غياهب التاريخ، وعبروا دوماً عن قناعتهم باعتلاء سدة الحكم اذعاناً للاستحقاقات الكثيرة: منها كونهم أكثرية، ومنها كونهم الطائفة الناجية وماعداها ضلال وكفر. وفي عموم المنطق الشيعي تنقسم الدائرة الى قسمين: الأول امتداد لثورة الحسين وهم يمثلونه، والأخرى اتباع يزيد يستحقون عذاب الدنيا والآخرة. وعلى القارئ ان يعرف كيف تذابح ا لقوم في الأعوام الأربعة الأخيرة وقتِل أكثر من مليون انسان، وعدّاد الموتى لم يزل حاسبا! وعلى منوال العرب بطوائفهم وجماعاتهم يقيم الكُرد والتركمان والآشورييون والأتراك خيامهم وقناعاتهم وأوهامهم. فالكُردي عدو نفسه (الصراع بين الحزب الديموقراطي والاتحاد الوطني الكُردستانيين مازال موجودا والحكومة لم تتوحد إلا ظاهرياً) وهو كذلك عدو الآخرين ايضاً في قناعة متراكمة في اجتماع الأضداد المتصارعة.
والتركماني في بنيته المهلهلة التي لا قوام لجوهرها غير حضور خافت في مهرجان الصخب والفوضى، ينبري رمحاً مغشوشاً في حرب لا تضع أوزارها بهم ولا هي تتسعّر مبلغاً بهم، يوزع اللغو والالغاء على المكونات والجماعات.


الأشوري ربيب هذا التكوين. وقل عن الأمازيغ القول نفسه. والأقباط والعروبييون واللبنانييون بفسيفساءاتهم وتناقضاتهم، والسورييون والأتراك والمكنون الشرقي المنتفخ والموبوء تقوم قوائمه على البغض، والقناعة بلاشرعية وجود الآخر في الحياة إلا اضطراراً، وإلا اذا لم يكن في اليد اي حيلة لقلب المعادلة.
حين يزور الواحد منّا جماعة من هذه الجماعات بعيداً عن الرسميات والعدسات والتسجيلات، فان الصدق الذاتي يبوح ويعبر أكثر مما نسمعه في الاعلام بشتى وسائله. والاقتراب منها على حدا يوضح في بيان مخيف كم هي تعيش في عزلة شعورية من الآخرين وترسم بنفسها التاريخ خاضعاً لهوسها وهواها دون اي حساب للبسيط من مفردات الحياة في وجودها.


وعلى هذا الترتيب تستقر كائناتنا ومكنوناتنا السياسية والانتمائية خلف متاريس الصراع والفوضى الدائمين في بلادنا. وموسم الحصاد في استقراره الطويل منذ امد بعيد كان ولايزال مرّاً يلفظنا بالجملة في اتون الحروب والفقر والمعانات.
نحن نفتقد الدولة كدائرة مدنية، والانتماء الى الأمة حضارياً ذوى في بروز الانتماءات الأصغر التي تلعب بمفردات من هذا القبيل بكرة واصيلا.
وكلما فقدنا دائرة أكبر نحتمي في الصراعات بأصغرها. وفي كل دائرة اضداد وتناقضات لا يوحدها سوى الدائرة المقابلة لها في الصراع نفسه. والسياسة في شرقنا مواجهةً وائتلافاً هي من مشتقات هذا الافراز. والاعلام هو المرآة التي يزين كلّ واحد نفسه فيها. لكن لماذا تنجر الشعوب وراء هذه الجلبة/الكارثة؟
ذلك سؤال مستحق لكل فرد منا.
وقيد الاثبات والمنازعة تنتشي كل جماعة من جماعاتنا بنشوة الانتصار. الانتصار/الوهم الذي يقتلنا في غياهب تركاته: واحدة منها يأسنا القنوط من المستقبل، ممتزجاً بعقدٍ كثيرة منها الاضطهاد والانطواء، تعالجها الجماعات بمعادات الآخرين وبغضهم والانتصار عليهم وهماً وامنيةً.
والصراعات تدوم والعصبية وقودها...!

علي سيريني