كتبت قبل حوالي أسبوعين أن توفُّر البيئة المناسبة سمح للرئيسين ريغان وكلنتون بتقلد أعلى منصب أمريكي رغم نشأتهما في ظروف عائلية صعبة وبُعْد عائلتيهما عن العمل السياسي. ولكن هل معنى ذلك أن استنساخ الديمقراطية الأمريكية هي الحل الوحيد للآخرين؟ لا،، الديمقراطية الأمريكية ليست الحل الوحيد لخلق بيئة توفر الفرص لأبنائها. فلكل دولة خصائصها الفريدة التي تتطلب نظاما سياسيا مختلفا، فثقافة أي دولة تتشكّل من نظمها الاجتماعية، وقيمها التي تعكس مبادئها المتوارثة، وعُرْفها هو نتاج تجربتها التاريخية. فالنظام السياسي ليس حلة توضع على الدولة بل هو جزء من النسيج الذي يصنع الدولة ويحدد هويتها ويميزها عن غيرها من الأوطان. ولكن في نفس الوقت هناك خصال ديمقراطية تتخطى حاجز الأيديولوجية السياسية مثل الشفافية والمسؤولية والمحاسبة وهي خصال عالمية تعود بالفائدة على مواطنيها بغض النظر عن مسمى ذلك الفكر السياسي. إذن من الصعوبة بمكان استبدال نسيج أي دولة ولكن تشكيله وتحديده يبقى قابلا للتطويع والتحسين والتطوير.
لا يوجد ما يمنع الاقتباس والأخذ بتجارب الدول الأخرى. فالتجربة الأمريكية كنموذج سياسي توفر دروسا عديدة من أهمها أن النظام السياسي المفتوح المبني على مبدأ مشاركة المواطن في الحكم له أفضلية خلق فرص كبيرة تؤدي إلى نهضة ثقافية وعلمية واقتصادية. فأحد أهم الشعارات الأمريكية التي تطبع باللغة اللاتينية على بعض فئات العملة و المطبوعات الحكومية هي: quot;من الأفراد تنبثق المجموعةquot; ldquo;E Pluribus Unumrdquo;. هناك أفراد عدة خرجوا من هذه المنظومة الأمريكية، والفرد الذي يتبادر إلى ذهني هو رالف نادر.
رالف ناشط اجتماعي يدافع عن حقوق المستهلك استحوذ على اهتمام شعبي قبل عدة عقود. لقد وقف فردا أمام منظمات كبرى كشركات السيارات والمؤسسات الحكومية لضمان حماية المستهلك. نلمس العديد من نتاج عمله في الولايات المتحدة حيث استطاع تمرير القوانين الخاصة بتحسين حقوق وضمان حماية المستهلك من التي مررها من خلال الكونغرس. لعل أكثر أعماله تأثيرا في حياتنا اليومية هو تصنيع السيارات بهندسة توفر أكبر قدر من الآمان لراكبيها فلم تكن السيارات تصنع بقدر كاف من هندسة السلامة قبل السبعينيات من القرن الماضي.
رالف نادر الناشط الاجتماعي الذي يدافع عن حقوق المستهلك هو نفس الشخص الذي خاض انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2000 وهو ذات المواطن الأمريكي ذو الأصول العربية الذي ولد في ولاية كونيتيكت لأبويين مهاجرين إلى أمريكا قدما من لبنان. لقد قابلت رالف في مايو 2007 ولم أكن أدرك أن لغته العربية بذلك المستوى الجيد. فقد تحدثت معه بجمل مزجنا فيها العربية بالإنجليزية حول نشأته وعائلته وكيف زرع أبوه في ضميره الصحوة الاجتماعية وتحمل المسؤولية وكيف كانت والدته رفيعة الأخلاق ثاقبة النظر وكيف تعلم منها الجلد وتحمل المصاعب.
لقد تابعت عمله السياسي لانتخابات عام 2000 ورأيت كيف استطاع كسب أصوات حوالي ثلاثة ملايين ناخب أمريكي. رأيته يلقي الخطابات السياسية، وشاهدته يصافح الناس في الأسواق وعلى الطرقات. لقد كان يطرق الأبواب ويحدث كل من رغب في سماع ما سيحققه حال فوزه بمقعد الرئاسة الأمريكية. كنت أتساءل حينها: متى يجد وقتا للنوم؟ هل يتوقف عن التحدث إلى الناس؟ ألا تتعب يده من كثرة المصافحة؟ في عام 1999 وقفت شاهدا على حماس طلبة الجامعات وهم يتطوعون للمشاركة في حملته الانتخابية وتعريف الناس برؤيته السياسية، كل يشارك بخبرته ومقدرته.
المرشحون المؤهلون يقفون أمام الشعب الأمريكي في منافسة شريفة لأكثر من عام من أجل كسب تأييد أكبر عدد من أصوات الناخبين الأمريكيين. عندما يعلن المرشح عن دخوله الانتخابات فإنه يسجل لدى اللجنة المعنية ليبدأ في إجراءات ترشيحه الرسمية والتي تتضمن كشفا كاملا وعلنيا عن تاريخه الشخصي، من تاريخه المالي إلى حالته الصحية. من حق الشعب معرفة تاريخ المرشح دون استثناءات أو تنميق كي يوضعوا ذلك في الحسبان عندما يفصح المرشح عن مبادئه السياسة ونظرته المستقبلة للدولة فتتكون لديهم صورة مكتملة عن المرشح.
المرشح يقف وحيدا أمام الناخب الأمريكي لأشهر طويلة دون أي حواجز أو حجّاب عارضا أفكاره وآراءه ومدافعا عن نظرته السياسية. من المتوقع أن يعرض كل مرشح خطة مفصلة عما سيقوم به كرئيس. فعلى المرشحين أن يدافعوا عن أرائهم في مناظرات سياسية عامة تعقد بينهم أمام أعين الحاضرين وكاميرات الإعلاميين ومايكرفونات الإذاعيين، فالمرشحين يجيبوا على أسئلة الإعلاميين واستفهامات الأشخاص الذين يقابلوهم في الطرقات والأسواق والمصانع وفي اجتماعات سكان الأحياء. يشرحون آراءهم بشكل مفصل في الاجتماعات المصغرة أو الفردية عندما يجولون في الأسواق ويزورون المواطنين في البيوت وفي الجامعات والمراكز الاجتماعية.
لم يتوقف رالف عن العمل رغم بلوغه سن 73 وتحقيقه لإنجازات عظام كثيرة يصعب تعدادها في مقال قصير كهذا، هناك من يعتقد أن رالف ليس بحاجة إلى الاستمرار في الكفاح والمثابرة، ولكن ما لا يدركه هؤلاء أن مثل ذلك الاقتراح ليس مقبولا في الولايات المتحدة. يمكن للشخص أن يحقق سبقا عظيما أو انجازا كبيرا ولكن ذلك لا يعطيه الحق بالتوقف عن إطلاق العنان لأحلام أكثر طموحا وانجازات أصعب وصولا، فإن فعل فإنه يخون أبناء مجتمعه الذين لا يتوقفوا عن العمل والإنجاز. فعدم الأخذ بالفرص المتوفرة هو انتحار للذات البشرية.
وليد جواد
فريق التواصل الإلكتروني
وزارة الخارجية الأمريكية
[email protected]
http://usinfo.state.gov/ar
التعليقات