لم تكن واقعة عابرة تلك التي جرت في منطقة المنصور وقتل فيها عدد من المدنيين العراقيين العابرين سبيلهم، ولم تكن الأولى التي يتم ارتكابها بحق الأبرياء من أهل العراق ويتم الاعتذار سبيلا لحفظ القضية وغلقها ونسيانها.


فالدم العراقي رخيصا ولا يتساوى مع أي دم إنسان آخر اليوم، وحياة العراقيين اليوم بلا معنى، وليس لهم إلا أن يكونوا اليوم بين كماشة جنود الاحتلال وبالأمس تحت مطرقة الدكتاتور، وهكذا تنقضي قضية أخرى من قضايا سجلت في أضبارة القتل الخطأ، وأسميناها القتل الغبي.


راحت ضحايا كثيرة من العراقيين غير أن أحدا لم يلتفت الى متابعتها، وحدها الولايات المتحدة الأمريكية من تعتذر وتحقق وتحاكم، ولكنها لاتدرك مقدار الألم النفسي والاجتماعي الذي يعانيه أهل الضحايا، ولكنها لن تدرك أصلا ماتقرره الأعراف والقيم الاجتماعية في هذا البلد، وتتم محاكمة بعض مرتكبي تلك الجرائم مع كل الإصرار والخسة في الفعل الجنائي بأحكام أمريكية تضع رخص الدم العراقي أمامها، ومقابل موت عراقيين تقييد لحرية جنود أمريكيين، ومقابل انتهاكات واستباحة شرف عراقيين توبيخ لجنود أمريكيين، ومقابل ممارسات يندى لها جبين الدنيا لاتجد قطرة في جبين الولايات المتحدة الأمريكية.


والقوات الأمريكية فوق القانون العراقي، وهذا من قوانين الاحتلال التي يقال أنها تغيرت وصار في العراق سيادة وأستعاد كرامته المسلوبة زعما، ومن حق الجندي الأمريكي أن يرتكب القتل تحت وطأة الحذر والخوف والرعب ما دامت يده على الزناد، ومادام يخشى القتل في كل لحظة، ولكن التعدي على مواطن مدني يجلس بسيارته مع عائلته بسحقه بالدبابة في مدينة الموصل لايحكمه قانون الغاب، ولايمكن لهذه الجريمة أن يتم طمرها تحت وطأة الاعتذار، وحين يقتل مواطن في الأنبار وهو يحتمي في بيت الله ويرفع يده استسلاما فهي جريمة إنسانية بشعة من جرائم الحروب، وحين يتم اغتصاب فتاة قاصرة وقتل أفراد عائلتها جميعهم ومن ثم قتلها لايتساوى مع حياة الجندي المجرم مادام أمريكيا، أو أطلاق الرصاص على كل سائق سيارة يمكن أن يتجاوز الرتل الأمريكي وقتل سائقها وركابها.


الجرائم التي ترتكب بحق العراقيين من قبل جنود الاحتلال تؤدي الى موت عراقيين وإصابة أعداد منهم بعوق، لايعيد الاعتذار لهم الحياة ولا الاعتبار لعوائلهم ومستقبل أولادهم، والمصيبة حتى أن حكوماتنا المتعاقبة ومجلس نوابنا الموقر لم يلتفت الى هذه الناحية ليعالجها، والحكومة الأمريكية تعتذر أشد الاعتذار ولكنها لم تكن تدرك أنها تترك الإرهابي وترتكب الخطأ الغبي بحق البريء من المدنيين.


ولو أستمع مسؤول أمريكي لما تحدث به أحد أهالي ديالى في قناة الفيحاء، لعرف جزء من الحقيقة، فقد كانت القوات الأمريكية تعتقل الأبرياء من أهل القرى وتترك الإرهابيين يحكمون مناطق ويتحكمون بها، ولهذا فأن السجون الأمريكية في العراق تعج بالأبرياء، في حين يعيث الإرهابيون الفساد ويمعنون في قتل وترويع المدنيين من أهل العراق، ولهذا يقع أهل تلك المناطق ضحايا الإرهاب والقوات المحتلة، ولو استمع مسؤول لما يقوله المواطنين في عرب جبور وأبو دشير من سيطرة الإرهاب عليها، ووقوف القوات الأمريكية فاغرة فمها لاتستطيع أن تمنع نزوح الأهالي عن بيوتهم،ولا السيطرة على المنطقة وإعادة أهلها النازحين منها تحت وطأة احتلالها من قبل مجموعة إرهابية، ولاقتل الأطفال من قبل قناص في المنطقة، لعرف هذا المسؤول لماذا يتم استهداف الأبرياء من المدنيين فقط دون سواهم.


كم عدد المدنيين الذين قتلوا برصاص القوات ألأمريكية في العراق؟ وماذا كانت نتيجة التحقيق معهم؟ مع إننا نعرف أن الدم الأمريكي لايتساوى مع الدم العراقي، وأن الجندي الأمريكي صار فوق قانوننا الوطني، وله أن يرتكب ما يشاء من الجرائم فدمائنا مستباحة أسوة ببلادنا.


سيعلق أهل كل عراقي قتل بالرصاص الخطأ أو الغبي شهادة تقديرية في بيوتهم، تتضمن الاعتذار وغلق التحقيق، فنحن في زمن المفاضلة بين البشر، وفي زمن انعدام حقوق الإنسان تحت يافطة الأمم المتحدة والشرعية وحقوق الإنسان، وسيشارك أهل الضحايا في الاحتفالات بالرغم من أنهم من جنس لايتساوى مع جنس الجنود الأمريكان.


ومن اغرب من هذا أن نسمع أن شركات أمريكية تتعاقد في العراق وتحضر معها شركات أمنية أخرى لحمايتها، وان يتم ترخيص لهذه الشركات بحمل السلاح، وهذه الشركات وان كانت مدنية وتتشكل من أفراد لاعلاقة لهم بالقوات الأمريكية، إلا أن قانون العراق لايسري عليها، فالحصانة واحدة سواء على الجندي الأمريكي أو المرتزق المتعاقد مع القوات المحتلة أو المدني العامل في مجال الأمن.


والواقعة القريبة التي حصلت في حي المنصور ببغداد يوم 16/9 والتي قتل فيها 11 مواطن عراقي مدني بينهم شرطي وجرح 13 جراح بليغة، من قبل مجموعة الحماية الأمنية الأمريكية ( شركة بلاكووتر )، حيث تم إطلاق الرصاص على المارة عشوائيا، لمجرد قذائف مورتر بالقرب من سياراتهم المدرعة، وهذه القذائف تأتي من مناطق بعيدة، يدلل على مدى الاستخفاف بأرواح العراقيين والاستهانة بسيادتهم وكرامتهم.
وقد استفز الفعل المذكور حكومتنا الوطنية فقررت سحب ترخيص تلك المؤسسة الأمنية من العمل في العراق، ومقاضاة الموظفين، دون أن نتعرف على الجهة التي ستقوم بالتحقيق معهم؟ وهل إن هذه الشركات كانت تنشر جيشها المسلح بموافقة الحكومة العراقية وبموجب تشريع أو قانون أقره مجلس النواب؟ أم الأمر غير ذلك؟


وحتى تكون الصورة أكثر وضوحا وصراحة فأن الأمر يتعلق بالسفارة الأمريكية وحمايتها، إذ كان الموكب يعود لبعض موظفي السفارة الأمريكية وتعرض الى قذائف المورتر، وهو مالم يتم التصريح به في الإعلام العراقي، بينما قال توم كيسي المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية أن وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس اتصلت برئيس الوزراء العراقي نوري المالكي هاتفيا لتعبر عن أسفها لمقتل مدنيين أبرياء الذي حدث أثناء الهجوم على موكب للسفارة الأمريكية.


ومع كل هذا فقد رفضت السفارة تأكيد أن ترخيص بلاكووتر الغي، والأمر في كل الأحوال بيد السفارة والقوات المحتلة، وقالت شركة بلاكووتر ردا على أقوال وزارة الداخلية العراقية والحكومة انها لم تتلق اي إخطار رسمي من جانب وزارة الداخلية بشان إلغاء ترخيصها، وقالت شركة بلاكووتر التي تستخدم مئات من المتعاقدين الأجانب في العراق ومسؤولة عن امن السفارة الأمريكية على لسان المتحدث الرسمي جوهان شمونسيز أن حراسها تصرفوا (( بطريقة شرعية وعلى النحو المناسب )) ردا على هجوم معاد.
ومادام الأمر خارج نطاق القضاء العراقي بالرغم من أن الواقعة حصلت في العراق وعلى الأرض العراقية، والمجني عليهم من العراقيين، لان التحقيق سيكون من قبل القوات الأمريكية وفق وجهة نظر آحادية، تحكمها مقولة المتحدث الرسمي بأسم شركة الحماية من أن التصرف كان شرعيا ومتناسبا، لتنتهي تلك الدماء العراقية أسوة بمجرى الدم الكبير.


ونشك في أن السفارة الأمريكية ستسمح للقانون العراقي والسيادة العراقية المزعومة أن تأخذ مجراها وامتدادها الطبيعي سواء في التحقيق أو في محاكمة القتلة، كما نشك في كل الوعود والتصريحات التي أطلقها المسؤولين عن جديتهم في ملاحقة المجرمين، بالنظر لتكرار تلك الوعود في سوابق تم طمرها والتعتيم عليها قبل ذاك.


أن موظف الحماية في الشركة المذكورة يعمل خارج نطاق القانون العراقي، وغالبا ما يكون من الأمريكيين أو من رعايا الدول الغربية، وأنهم يعملون بموجب عقود خاصة، وأن أعدادهم تصل الى عشرات الآلاف، حيث يشكلون جيشا من المسلحين، أسوة بالجيوش التي تجوب شوارع المدن العراقية، غير أن مهمتهم ليس التصدي لقوات الإرهاب والمسلحين، إنما غالبا ما تتعرض هذه القوات للمشاة من العراقيين المدنيين بزعم الخطأ التي تتحجج به أكثر من مرة، وفي كل الأحوال فأن الحقيقة القائمة هي رخص الدماء العراقية التي كانت مستباحة في زمن الطاغية المقبور صدام، ولم تزل مستباحة من قبل القوات المحتلة،ولم يستطع العراقي أن يتساوى إنسانيا مع الجندي الأمريكي أو موظف الحماية الأمنية في كل الأحوال.

زهير كاظم عبود