انها لمفارقة مُضحكة مُبكية ان تعجز حكومة ما عن أنْ تكون عونا لشعبها، حيث وجد الملايين من ابنائه انفسهم مُجبرين على اختيار ( المُر ) اي الغربة املا في النجاة، فقررت تلك الحكومة ان تكون ورائهم ( فرعونا ) هناك، لتكون زيارات المسؤولين فيها الى دول غربتهم او لقاءاتهم بمسؤولي تلك الدول كابوسا يعكر نومهم وحياتهم. لقد كانت زيارة رئيس الوزراء العراقي الى سوريا وزيارة وزيري الخارجية والهجرة السويديين الى العراق مناسبة تركت البعض من العراقيين المقيمين في هاتين الدولتين يجدون انفسهم بحاجة الى ( حبة اضافية ) للسيطرة على ضغط الدم والكثير منهم الى ( الاسبرين او البارسيتيمول ) للتغلب على الصداع الذي سببته نتائج تلك اللقاءات.

مخطئ حقا من يعتقد ان العراقي يتجرع كأس الغربة كما لو انه ( علبة بيبسي كولا او ميراندا ) تأتيه مثلجة في يوم تموزي يرقص فيه المحرار جنونا بفعل الحرارة، بل ان كأس الغربة لديه يبقى على الدوام مريرا أليما يتقد بنار الشوق الى الاهل والاحبة والوطن ودجلة والفرات، ولذلك لاجدال في وطنية من يعيش في الغربة كما هو واجب الاعتراف ببسالة وشجاعة من لازال يعاني ويقاسي ويصمد في الوطن. لكن اغلب من دفع الثمن ويدفعه خلال السنوات الماضية هم الابرياء الذين لاحماية تحميهم ولاميليشيات تحوط بهم ولانفوذ يقف عونا لهم، فلم يبقى لدى بعضهم إلا الهرب طمعا في الخلاص. انها لمأساة كبيرة ان يخرج على التلفاز الرجل الثاني او الثالث في هرم الدولة العراقية ( يرجى الرجوع الى قانون المحاصصة لتحديد الترتيب الصحيح ) وهو السيد طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية عندما كان يزور احد السجون فيُبشٍر المعتقلين، ويُقسم لهم بالخالق العظيم، في ان وضعهم ونصيبهم هو افضل بكثير من غيرهم الذين يعيشون خارج اسوار ذلك المعتقل الصغير ( الامن ) لانهم، اي من هم خارج السجن، كما يبدو في تقييم السيد الهاشمي، يعيشون في غابة موحشة تكثر فيها الذئاب وبني اوى وليس بمقدور احدهم ان يعطي ضمانة بيومه او غده.

عجيب امرنا في العراق وكأن اولي الامر و المسؤولين فيه قد اكملوا اقوى الدورات واكثرها تفننا في تعذيب المواطن وملاحقته وتعكير صفو حياته انى ذهب. ترى متى يتخلص هؤلاء من تلك النظرية السقيمة التي تقول ان التنغيص في حياة ابناء الشعب يجعلهم بعيدين عن التفكير في السلطة والمنصب ومنافستهم عليهما، ثم ماذا ابقى هؤلاء ليتنافس المرء عليه!. اغلب دول العالم ( كبيرهم خادمهم ) بالفعل ونحن كبيرنا خادمنا بالشعارات والقول. في كل يوم تقدم لنا دول العالم مثلا جديدا في التعامل مع رعاياها في رعايتهم والدفاع عنهم وتقديم الافضل لهم بل يسخرون امكانات الدولة بكاملها لانقاذ فرد او مجموعة صغيرة منهم كما حدث مع الرهائن الكوريين في افغانستان او قبلها مع القنصل الاماراتي في بغداد وغيرها من الامثلة الكثير الكثير، ان الحسنة الكبرى التي يسجلها الامريكان للمرحوم الشيخ عبد الستار ابو ريشة ليست كونه استطاع ان يُحجٍم من فعل القاعدة في الانبار مما ترك عدد الضحايا المدنيين من العراقيين ينخفض في تلك المنطقة، بل ان خدمته الكبرى للامريكان تتمثل في ان جهده تركهم يتخلصون ( نوعا ما ) من تلك الضريبة اليومية التي كان الجيش الامريكي يقدمها يوميا في الانبار في مصرع جندي او اكثر من افراده وكأن قدره كان قد اصبح ان يعطي ( فطورا وسحورا يوميا ) لمن رمضانهم لاينتهي. في الوقت الذي اصبحت زيارة السيد المالكي الى دمشق مرتبطة بقيود فرض التأشيرة على العراقيين بينما اصبحت محادثات الوزيرين السويديين مرادفة لتضييق فتحة صنبور منح الاقامة على طلب اللجوء في السويد. ربما يقول قائل اننا نتجنى على الحكومة العراقية عندما نجعلها سببا في القرار السوري او في التعليمات السويدية الاخيرة التي تحدد ضوابط اللجوء، فيعتقد بوجود قواعد واسس ونوايا مسبقة، على الاقل مبدئية، لتلك القرارات والتعليمات قبل زيارة المالكي لسورية او الوزيران السويديان للعراق، وكل مافي الامر ان الدولتين قد تركت هذا يتزامن مع الزيارتين اتقانا ( لنظرية المؤامرة ) على الحكومة العراقية، وهنا ( تفقع مرارتي ) حالها حال كثيرون مثلي مِمًن امنيتهم الوحيدة ان يخرج العراق مرة واحدة فقط بلا خسائر من لعبة نظرية المؤامرة هذه، أم اصبح قدرنا ان نكون اول واخر من يضحي ولايستفيد ابدا في هذه اللعبة حتى ولو كانت ربما اطراف اللعبة الاخرى الصومال او جزر القمر او بوركينا فاسو!

دُعيت قبل اسابييع من قبل احد الاحزاب السويدية الكبيرة لحضور حلقة نقاشية حول واقع المؤسسات الصحية في السويد وموقف هذا الحزب من خطط الحكومة الحالية الرامية الى احداث خصخصة عنيفة في هذه المؤسسات. فوجئت حقا عندما وجدت ثلاثة نساء قد إتخذن امكنة خاصة بجانب مدير الحلقة وهو رئيس مجموعة ذلك الحزب في مجلس المقاطعة، الذي ما ان بدأ بالحديث حتى ذهبت احداهن بعمل الترجمة بلغة الاشارات فانبتهت الى الحضور الذي لم يتجاوز العشرة فكان بينهم شخصا أبكم غير قادرعلى النطق. كانت كل واحدة من النساء تقوم بالترجمة لزمن محدد ثم تساعدها الاخرى، وهكذا بالتناوب وكان هذا الشخص الابكم غزيرا في السؤال والاستفسار، واستمرت الحلقة ثلاث ساعات تقريبا، في طريقي الى البيت خطر في ذهني ان اقوم بحساب بسيط للتضحية المادية التي قدمها هذا الحزب السويدي مقابل مشاركة شخص غير قادر على النطق دون ان انكر المغزى الانساني السامي له، فرُحت احسب ثلاث ساعات عمل لكل واحدة من المترجمات مضافا اليه سعر الساعة الخاص كون الحلقة كانت في المساء وليست في اوقات العمل الرسمي ( لنقل مثلا خمسين دولارا في الساعة، يعني 450 دولارا كمجموع )، ربما يكون المبلغ تافها في قيمته المادية، لكن مشهد ( دار الحنان ) المأساوي الذي جاء طيفه كخط موازي لما قام به هذا الحزب السويدي ترك للامر بصمة، حيث لايملك الانسان إلا المقارنة فيعيش نتائجها ليرفع بسببها وجهه الى السماء شاكيا ومعاتبا بالجملة المعروفة ( لماذا نحن هكذا؟! ).

اللهم اجعل من يتولى امرنا يُحبنا، على الاقل، كما يحب ( اصدقائه ) من غير العراقيين. انه السميع المجيب، امين.

د. وديع بتي حنا

[email protected]