الطائفية والعرقية تثير المشاعر. فنحن نمقتها ونحن نسبح بحمدها. هذه المشاعر المتضاربة والتأرجح بين انكار الطائفية والعرقية وبين ممارستها وتطبيقها في بناء مؤسسات الدولة والمجتمع، اهم ما يميز المشهد العراقي منذ الاجتياح الامريكي للعراق في اذار 2003، ولحد الان.

وكانت ادارة بوش قد تلقت تحذيرات استراتيجية تنذر بخطر مغامرة احتلال العراق واعتمادها على فصائل المعارضة العراقية (ذات النزعات الطائفية والعرقية). وجاء هذا التحذير في ضوء اندلاع الروح الطائفية والعرقية (الدامية)، التي سادت مناطق مختلفة من العالم، بعد انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيتي السابق. ؤقد حذرت جمعية الحقوقيين العراقيين في لندن من خلال مشروع العدالة الانتقالية لعام 2002-2003 (ص59-60 )من خطورة تسلط هذه الفصائل على مقدرات الشعب العراقي.

وكانت جهود الولايات المتحدة، باقامة انظمة ديمقراطية تعددية، وانشاء اقتصاديات السوق ، العامل الرئيسي خلف انتشار هذه الظاهرة واشاعة العنف الطائفي والعرقي حول العالم ، كما حدث في اوربا الوسطى الشرقية وافريقيا ، وارتكبت في العراق طيلة السنوات الاربعة الماضية، معظم الاعمال الوحشية والقتل على الهوية، باسم بناء الديمقراطية ودولة القانون (!)

ومن المعلوم بان فصائل المعارضة العراقية، التي تسلمت السلطة في ظل الاحتلال، قد عملت منذ الغزو العراقي وطرد القوات العراقية من الكويت عام 1991 وفق الاجندة التي تخدم المصالح الدولية او الاقليمية، وقد تجسد ذلك ، (باحتواء وتفتيت) اللجان التي انبثقت عن لجنة العمل المشتركة لمؤتمر المعارضة العراقية ، الذي عقد في بيروت للايام 11 ، و12 ، و13 آذار 1991 ، والذي كان يمثل انذاك ( كل الوان الطيف العراقي).

ويبدوا بان التوصيات التي خرج بها المؤتمر المذكور ، كانت تتعارض مع المصالح الدولية والاقليمية انذاك، حيث ركز على دعم قوى الانتفاضة التي كانت تشتبك وقت انعقاد المؤتمر في معارك ضارية مع قوات الحرس ،الجمهوري في أغلبية مدن العراق. وعلى المطالبة ببذل الجهود لتجميد عضوية نظام صدام في الأمم المتحدة ، والجامعة العربية ، لخرقه ميثاق الأمم المتحدة ، بغزوه للكويت .
وكان ثمرة احتواء مؤتمر بيروت الذي جرى بواسطة توزيع الدولارات وشراء الذمم ، انعقاد مؤتمر فينا في حزيران عام 1992 الذي جسد المحاصصة الطائفية والاثنية لاول مرة، ثم اعقبه مؤتمر صلاح الدين في تشرين الاول عام 1992 الذي عقد تحت الحماية العسكرية الامريكية واشراف المخابرات الاجنبية، وانبثق عنه اول قيادة وفق اسس المحاصصة الطائفية والعرقية. وفي مؤتمر لندن الذي عقد في منتصف كانون اول 2002 ، قبل احتلال العراق ببضعة اشهر، توُجت وكرُست، نفس الاسس ، واعدت له نفس القوى وبالاشراف المباشر للاجهزة الامريكية والبريطانية (!)

وقد أقرت هذه الاسس في قانون ادارة الدولة العراقية (الدستور المؤقت) الذي وضعه بريمر ووقعه اعضاء مجلس الحكم المشكل من نفس القوى التي شاركت في مؤتمر لندن ، لاضفاء الشرعية العراقية عليه ، وليكون نواة دستور الدولة العراقية بعد الاستفتاء والانتخابات التي جرت عقب تسليم السلطة الشكلي لحكومة الدكتور اياد علاوي المؤقتة، لتصبح (الاسس الطائفية والعرقية ) استحقاقات دستورية لا يمكن مناقشتها او اجراء اي تعديدلات عليها (!)

فكانت منجزات مجلس الحكم وحكومة علاوي هو فرض التقسيم الطائفي والعرقي من خلال تقنينه ببنود الدستور وجميع التعليمات الخاصة بالانتخابات ومراحلها . واثمرت هذه المنجزات في مرحلتي الجعفري ثم المالكي بتشكيل مؤسسات امنية طائفية ولكافة مؤسسات الدولة ،بل جعلت الصراع الطائفي حقيقة واقعة تمارس حتى داخل المدارس الابتدائية، وتحولت الساحة العراقية الى مسلسل من عمليات القتل الطائفي على الهوية الذي اتخذ ابعادا غير مسبوقة (!)

لذلك من غريب المفارقة ، ان يتحول الان صناديد المحاصصة الطائفية والعرقية الى دعاة الحفاظ على الوحدة الوطنية العراقية واصبحت تصريحاتهم التي تلعن الطائفية والعرقية ومن جاء بها الى العراق ، تملىء جميع وسائل الاعلام (!)

ولا ندري ان كان هذا التحول بزاوية 180 درجة، من سياسة المحاصصة الى (شعار) الوحدة الوطنية ، هو صحوة ضمير ، ام هو تكتيك سياسي . وكما قال الشاعر العربي القديم quot;وداوها بالتي كانت هي الداء quot; فاصل الداء هو القوى السياسية، الطائفية والعرقية، والتي يؤكد استمرار تمسك قوات الاحتلال بهذه القوى، رغم فشلها في تحقيق مطالب الادارة الامريكية (المزعومة) بتعديل الدستور ، والغاء قانون اجتثاث البعث والقضاء على المليشيات الطائفية وفرق الموت، وتحقيق المصالحة الوطنية. ان ذلك دليل بان شعار الوحدة الوطنية هو مجرد تكتيك سياسي له اهداف وغايات مرسومة مسبقا لتقسيم العراق لثلاث دويلات شيعية وكردية وسنية. وقد تجسدت هذه الاهداف بعمليات الفرز السكاني الطائفي، التي جرت على نطاق واسع في كل مناطق العراق ، والتي بدات بشكل خاص منذ تفجير اضرحة سامراء. وسينتقل عدوى هذه العمليات سريعا الى دول الجوار ، لتدخل منطقة الشرق الاوسط بأكملها في اتون حرب طائفية عرقية قد تستمر لعقود طويلة من الزمن. وسيتم ادارة هذه الصراعات من على بعد، من خلال ادامة ماكنة الحرب والقتال بين الاطراف المتصارعة، وبالتالي تحقيق حلم اسرائيل في تقسيم المنطقة الى دويلات (مشروع الشرق الاوسط الجديد).

ولكن قد تجري الرياح بما لاتشهي السفن، اذا ما وعى الشعب العراقي والدول المجاورة للعراق الى حجم اللعبة الخبيثة التي تستهدفهم. وارى بان بوادر الوعي لدى الشعب العراقي تلوح بالافق، من خلال البدأ بتفكك التجمعات الطائفية الكبيرة داخل العراق.

ولغرض تفويت الفرصة على جميع القوى الشريرة الداخلية والخارجية، لابد على جميع القوى العراقية الوطنية، ان تنبذ اي تشكيل لحزب سياسي طائفي او اثني، وابعاد جميع القوى والشخصيات السياسية التي مهدت للمحتل بناء العملية السياسية في العراق وفق اسس المحاصصة البغيضة، والعمل على بناء عملية سياسية جديده اسسها الولاء للوطن وهدفها وحدة العراق.

د. طارق علي الصالح
رئيس جمعية الحقوقيين العراقيين-لندن
[email protected]