في عمر 15 سنة وتحت الخوف من عذاب نار جهنم ذهبت الى المسجد بمحض أرادتي لإداء الصلاة من دون ان يوجهني أحد من أهلي، وكانت المنابر الحسينية المنتشرة في مدينتي كربلاء تضخ الثقافة الدينية الطائفية التي كنت أظن ان فيها خلاصي وسعادتي حيث كنت مخلصا لإنتمائي الطائفي وحريصاً على تعزيزه بالثقافة الدينية التي تغذي في داخلي أقصاء أخر المختلف وتقوية نزعة التعصب في نفسي!

وتصاعد ت في داخلي الميول الطائفية لدرجة دفعتني لدخول الحوزة العلمية لدراسة العلوم الدينية الخاصة بالمذهب الجعفري، وكنت مثل غيري من الطائفيين السذج أعتبر هذه العلوم هي منتهى الحقيقة وتجمع علوم الأولين والأخرين!


وكان عزائي عند كل فشل واحباط وخسارة في الحياة.. هو أنني أعزي نفسي بأنني من شيعي وأسير على الطريق المستقيم الذي سيصلني الى النجاة والسعادة والجنة!

وكنت أشارك في المواكب الحسينية للطم ( والتطبير / ضرب الرأس بالسكين )، وأشتري الكتب الطائفية وأهديها الى من أعرف من ابناء الطائفة السنية في محاولة مني لتغيير معتقداتهم وأقناعهم بتبني التشيع، وكانت مشاعري من جراء هذا العمل في غاية السعادة والفرح وراحة الضمير ظنا مني أنني أقدم خدمة الى الاسلام من خلال هداية الناس الى الصراط المستقيم بأعتناق التشيع!

ولاتستغربوا فأهم صفات الشخص المتعصب دينيا وطائفيا وقوميا وحزبيا... هو الانسجام الأعمى مع قناعاته المشوهة، ومحاولته نشرها والدفاع عنها، والمتعصب دائما بحاجة الى الأعلاء من شأن معتقده وأقصاء الاخر المختلف وتصويره بمظهر العدو الذي يجب محوه من وجه الارض، وما الحروب الدينية والطائفية والقومية والحزبية.. ألا ترجمة للمشاعر العدوانية التي تسعى أقصاء الاخر المختلف بسبب أوهام الأعتقاد بأحتكار الحقيقة والإيمان.

مؤسف انني لم أستطع الأمساك بالشرارة الأولى التي أشعلت التحولات الفكرية الجذرية بأتجاه العقلانية والتنوير والسير صوب الله وحده بمشاعر الحب والأمتثال، فالتراكمات النقدية تتكدس في العقل والروح عبر الزمن وتعتمل في داخل الانسان في الظل دون ان يشعربها الانسان لغاية أنبجاسها من أعماقه على شكل أحتجاجات وسخط ومواقف نقدية ثم تأخذ شكل التحولات الفكرية والروحية العملية.

لقد كان ينمو في داخلي بهدوء دون ان أعلم انسان أخر مختلف عن الشخص الطائفي الذي يتحرك على السطح.. انسان عقلاني متنور بفضل القراءات المتواصلة في الادب الروائي العربي والعالمي والفلسفة الوجودية وعلم النفس، والأهتمام بالفن عموما وخصوصا الموسيقى والسينما... وكان هذا الانسان يجهز نفسه للإنقضاض على الانسان الطائفي المشوه الذي كان يتحرك ببلاهة تدعو الى الشفقة!

وشعرت أول مرة بنار التمرد تشتعل في داخلي حينما كنت طالباً في حوزة النجف لفترة قصيرة جدا، وكنت أقف قرب مكتب المرجع المعروف (( ابو القاسم الخوئي )) عندما مر من امامي جالسا على كرسي متحرك ولم أتقدم للسلام عليه وتقبيل يده مثلما جرت العادة لدى عموما الشيعة في التعامل مع رجال الدين.

وحينما غادرت العراق توفرت لي الفرصة لدخول الحوزة مرة اخرى لفترة قصيرة، الانخراط في قراءات موسعة في الفكر الديني صاحبها نمو الوعي النقدي في داخلي الذي أتجه أولا لنقد رجال الدين وعناصر الاحزاب الاسلامية والأنتباه الى تخلف ودجل ولصوصية وسفالة هؤلاء الذين أصبحوا بنظري عبارة عن حشرات مقززة تثير في نفسي الغثيان والأشمئزاز.

ثم أنتبهت الى قضية نشوء الايديولوجيات والمذاهب بفعل المؤثرات الاجتماعية والثقافية والصراعات العشائرية في بداية صدر الاسلام بين بني هاشم وأمية والعباس وغيرهم وأمتداد هذه الصراعات وأتخاذها شكلا مقدسا مدعوما من كل طرف بحجج دينية من اجل أضفاء الشرعية على طموحاته في الأستحواذ على السلطة!

وبالتالي فأن نشوء المذاهب الاسلامية - وفي كافة الديانات الاخرى - هو ترجمة لثقافة العصر الذي أنتجها والظروف الاجتماعية والسياسية والدينية والصراعات التي حصلت حينها، وهي لاتعبر عن حقيقة الدين، وليست ملزمة لأحد لأنها لم تصدر عن الله تعالى مباشرة وانما هي مجرد وجهات نظر صدرت عن البشر وغالبا ماتكون وجهات نظر منحازة ومتعصبة وتساهم في تشويه صورة الله والدين وتدعي أحتكار الحقيقة والايمان!

كان ومايزال أهم معيار نقدي أتسلح به اثناء محاكمتي النقدية للمذاهب وعموم الفكر الديني.. هو معيار عدالة الله فلا يعقل ان الله العادل يفضل طائفة واحد أو مايسمى (( الفرقة الناجية )) يحبها وحدها ويدخلها في نعيم جنانه ويدخل جميع البشر في نار جهنم... هذا مستحيل على عدالة الله ورحمته التي تشمل جميع البشر وكافة الديانات وجميع البلدان... فلا أحد من حقه أدعاء احتكار الحقيقة والايمان.

وطبعا هنا نستثني الحركات الارهابية من رحمة الله فالجماعات التكفيرية الاجرامية من أمثال الوهابية وولاية الفقيه الخمينية الايرانية والحركات الارهابية الاجرامية التابعة لهما وكافة الاحزاب الاسلامية الشيعية والسنية.. مؤكد انها غير مشمولة برحمة الله وان لها الخزي في الدنيا والعذاب في الاخرة.

غادرت سجن الطائفية والمسميات الدينية.. وأتجهت الى (( فكرة الله )) ومعناها وصفاتها كفلسفة وعقيدة ترمز الى الجمال والعدالة والحب والفضيلة ومبدأ الاخوة الانسانية بين البشر جميعا لافرق بين السني والشيعي والمسيحي واليهودي والبوذي.

وختاماً.. بودي الأشارة الى المتعصبين من خصوم الشيعة الذين سيحاولون استغلال كلامي هذا للطعن في الشيعة.. أقول لهم لاتفرحوا كثيرا، فأنني أعتبر كافة المذاهب في الاسلام سواء كانت شيعية أم سنية هي من صنع البشر وليست لها علاقة بجوهر الاسلام، وأدعو الجميع الى ترك عبادة رجال الدين والمسميات الطائفية والتوجه الى عبادة الله وحده لاشريك له.

خضير طاهر

[email protected]