كيف تحول الأكراد من حماة الشرق الى متحالفين مع القوى الخارجية ضده؟

يمتد الصراع بين الشرق والغرب، أو الشمال والجنوب الى عمق تاريخي طويل. ففي خلال سبعة عشر قرناً، وقع الشرق تحت غزوات وحملات غربية لم يغيّر في طبيعة الصراع تبدل الأنظمة والدول والدساتير الغربية.


فقبل الرومان وبعدهم، وأثناء الحملات الصليبية والى الغزوات الاستعمارية التي قضت على آخر معقل توحيدي لمحتوى الشرق اي الدولة العثمانية، والى يومنا الحاضر، استمرت حملات الشمال على الجنوب بحجج كثيرة ودعاوي مختلفة.


وفي المقابل شنّ الجنوب على الشمال حملات يبلغ عمرها خمسة قرون.
على مرّ التاريخ كان الأكراد مدافعين عن الشرق ضد الحملات التي استهدفته من قبل قوىً خارجية. واكتسب الأكراد هذه الصفة التي لفتت انتباه المستشرقين الذين كتبوا عن الشرق وتكويناته، بفضل ميزاتهم القتالية التي اشتهروا بها عبر التاريخ.


ويعد عصر صلاح الدين الايوبي المرحلة الأهم والأشهر في تاريخ الكُرد كله.
فصلاح الدين قاد جيش الشرق المكون من الكُرد والعرب والترك والآخرين، للتصدي للحملة الخارجية الاوروبية وسجّل انتصاراً كبيراً ولامعاً، له حضور دائم رغم حدوثه قبل قرون طويلة.
استمر الأكراد مقاومين للحملة الخارجية حتى انهارت الدولة العثمانية، ولم يعد لها أثرٌ في التكوين الجديد الذي انبثقت منه كيانات اقليمية قومية/وطنية.


هذه المعادلة ضُربت في الصميم، وانقلبت الى الضد بعد انقلابات جذرية عصفت بالمنطقة في القرن العشرين.
كُردستان التي استعصت على الغزاة بحدة بالغة، أمست بكينونتها هذه بمثابة هدية ثمينة لقوى خارجية. فالغربييون الذين دفعتهم الشجاعة والعقلانية الى دراسة الشرق عن قرب ولمدة طويلة، انتهوا في بحوثهم الى معرفة متراكمة وكاملة عن محتوياته على الأصعدة كلها. هذه المعرفة الشاملة للغرب بجوهر الشرق وثناياه، جعلت من السياسات الآنية له ـ للغرب ـ مبنية على عمق رؤيوي وبعد نظر متينين. وهكذا ارتأت القوى (الاستعمارية) تقسيم كُردستان مثل كعكة، ليس كرهاً بالأكراد فحسب، وإنما كرها بشعوب المنطقة كلها وبالدول التي انشأوها ووزعوا كُردستان عليها. ورداً على الصياغة الغربية الجديدة الناكرة للهوية الكُردية اندلعت ثورات وانتفاضات كُردية متعاقبة، تهدف الى تغيير الوقائع المستحدثة بالقوة لاقامة دولة كُردية. تماماً كما توقع الغرب حدوثه.


في شمال كُردستان، أي الجزء الملحق بالدولة التركية قامت تسعة عشر ثورة وانتفاضة كُردية، آخرها انتفاضة حزب العمال الكُردستاني.


في العراق وإيران استمرت الثورات الكُردية طيلة القرن الماضي، ووقعت خسائر كثيرة في الأرواح والثروات اثرت تأثيراً بالغاً على نمو الكيانات الجديدة وتطوير البنى الحياتية لقومياتنا جميعا. واستمر الجانبان في الصراع الاستنزافي، الأكراد هادفين الى الاستقلال شرط الحياة والموت ( يا كُردستان يان نه مان: إما كُردستان أو الموت)، والدول المجاورة لهم قاصدين سحق آمالهم وتطلعاتهم القومية/الوطنية، في تطرف واضح بين المتصارعين لم يسمح بمساومة معقولة في انصاف حلول تجنباً للكوارث. وهكذا استطاع الغرب للمرة الأولى تحويل الأكراد من حماة الشرق الى اعداء له، في كلفة باهظة جداً في حساب الشرق التاريخي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي.


استمرت الحروب والصراعات عقداً بعد آخر، وبدا الحد التنازلي للآمال الكردية يؤثر في منحى جهودهم نحو انجاز مشروع الاستقلال، فتعلّم الأكراد ان حكماً ذاتياً ضمن هذه الكيانات قد يعوض خساراتهم المتلاحقة امام دول متحدة عليهم وتتفوق قوة وعدّة. في الأثناء نظرت الأجيال الجديدة في الدول الأربعة التي تقتسم كُردستان، الى الأكراد نظرة تتراوح بين الريب والخيانة والعداوة تحت تاثير الاعلام الحكومي القوي الذي صوّر الأكراد عصاة ومتمردين على القانون. الأجيال الجديدة لم تكن تعرف باصول القضايا والأحداث التي عصفت بالمنطقة، وجرى تعتيم كبير على الدراسات والبحوث التي تتناول التكوين الكُردي، ما عدا تلك التي عكست سياسات الحكومات تجاه كُردستان. و في هذا المجال خرجت نظريات تنفي حتى الوجود الكُردي بشكل مطلق. ففي تركيا أعتبر الكُرد اتراك الجبال، وفي سوريا والعراق كانت هناك دراسات منتشرة تقول بالأصول العربية لهم، فضلاً عن دراسات مثيلة في إيران تعيد الكُرد الى أصل فارسي.


هذا المنحى الدراسي التوظيفي للسياسات الحكومية، قام بها اكاديمييون وأصحاب اختصاصات علمية، دفع بفرص السلام بين الأكراد والحكومات المعادية لهم الى انفاق مظلمة ليس لها نهاية. والغرب الذي طابت له رؤية هذا الصراع الدامي بين الجانبين دون ان يكون هناك فريق مفضل لديه لم يقف مكتوف الأيدي. فالغرب نفسه أسس لهذه الفوضى من أجل أهداف استراتيجية، فقام ببيع السلاح والعتاد الى هذه الدول دون ان تنسى مد الأكراد بالسلاح عن طريق صفقات اسلحة سرية ومخابراتية. الدول الأربعة فضلت المحافظة على وحدة البلاد بالغالي والرخيص، والكُرد أصروا على نيل الحقوق القومية والحصول على الاعتراف بوجودهم كتكوين مختلف له تاريخه. وهكذا حصل توافق ضمني بين الحكومات والأكراد، على تفضيل الصراع والأحقاد، ونشوة الأوهام السياسية على الاستقرار والنمو والتطوير للبنى الحياتية لشعوبنا.


منذ نشوء هذه الكيانات في بدايات القرن العشرين في أعقاب انهيار الدولة العثمانية، ونحن جميعاً نخسر أكلافاً باهظة وخيالية في الحياة كلها. ومنطقتنا التي تعتبر الأغنى بين مناطق العالم، أمست تصدّر العدد الأضخم من اللاجئين الى دول العالم بحثاً عن السلام ولقمة العيش. فالعراق الذي صرف النفط المؤمم لقمع الأكراد، انتهى بعد ثمانية عقود الى العودة معهم الى المربع الأول من الوجود والصراع. وتركيا التي تخسر عشرة مليار دولار سنوياً منذ عام 1984 إثر تصاعد انتفاضة حزب العمال الكُردستاني، عادت في سياساتها الى بدايات القرن العشرين بضعف بائن يعبر عن نفسه بالمطالبة بكركوك وموصل مرة ومن دون جدوى، ومحاربة الأكراد في العراق، وهو ما يثقل كاهل أعبائها أكثر، مرة أخرى. وإيران التي سحقت تطلعات الأكراد بقسوة، واغتالت قياداتهم وعلمائهم بدأت قلقة جداً لجهة استمالتهم الى جانب امريكا في هجوم محتمل في اي وقت وفرصة. ولذلك فقد بدأت القوات الايرانية المتاخمة للحدود العراقية في كُردستان بقصف المناطق الحدودية، ضد مقاتلي حزب العمال الكُردستاني (الفرع الايراني)، والحزب الديموقراطي الكُردستاني الايراني منذ اكثر من عامين. وسوريا بدأت في حساباتها الأمنية الشديدة ترقب انقلاب الموازين من جهات عدة، اهمها اكرادها في شمال البلاد الذين صعّدوا وتيرة المواجهة مع الحكومة في الأعوام الأربعة الأخيرة.


منذ عام 1991 إبان اندحار العراق في أعقاب غزوة الكويت الانتحارية، دأبت الدول الأربعة تجتمع دورياً ضد المنطقة الآمنة في كُردستان العراق حتى سقوط نظام صدام حسين. وبدل الانصراف لتطوير البنى التحتية لحياة شعوبنا ومواكبة التقدم والازدهار العالميين، مازالت دولنا وحكوماتنا تعاني تخلفاً شديداً في إدارة امورنا وأحوالنا. إن صرف الثروات والطاقات الوطنية من اجل الحروب والنزاعات امرٌ مأساوي ومريض، وعليه يجب علينا جميعاً ايجاد فرص واقعية لاحلال السلام في بلداننا. وهذا الأمر لن يتحقق إلا إذا اعدنا الاعتبار للانسان وكينونته في منطقتنا. فاستمرار الصراعات والحروب لآماد طويلة في الشرق في ظل الجوع والخراب والبؤس، جعل من قيمة الانسان رخيصة بثمن التغاضي عن تكدس الآف القتلى في الشوارع، وفي القبور الجماعية.


إن الاستمرار في النزاع والصراع القومي والوطني مجبولاً بالحسابات الأمنية لما يسمّى بوحدة البلاد، هو استمرار في الانهيار والخسارة والتخلف.
إن إعادة الاعتبار لحياة الانسان كقناعة حقيقية وسياسة ثابتة لدى الأحزاب والحكومات، قد تضعنا على طريقة صحيحة لانهاء ازماتنا وكوارثنا، وبالتالي المشاركة في استشفاف الآفاق البديلة لمستقبل منطقتنا التي عانت الكثير من الموت والدمار، ما انهكت قواها حداً لا تقدر على مواصلة الحياة إلا بالرضوخ لإرادة السلم والحياة معاً... وللحديث صلة.

علي سيريني