نصحني مثقفان عراقيان، اكن لهما كل التقدير والاحترام، ان اقرأ مؤلفات الباحث الاجتماعي العراقي الدكتور علي الوردي، فاخذت النصيحة بكل جدية وبدأت بقراءة كتاب quot;دراسة في طبيعة المجتمع العراقيquot;، الذي ما ان توغلت قليلا في صفحاته حتى وجدت نفسي اكرس له جل وقتي. كان السبب وراء ذلك هو شعوري بانه اخذ يملأ فراغات ليست بالقليلة في ثقافتي ويصل افكاري المشتتة الواحدة بالاخرى فيضيء مناطق مظلمة من وعيي. انه اول كتاب اقرأه يتحدث عن امراض المجتمع الذي انتمي اليه دون مجاملة او كذب، ويخبرني عن التاريخ الذي تجاهلت ستة كتب منهجية مخصصة لمادة التاريخ اخباري عنه.


قبل ان ادخل في الموضوع لدي اعترافان: الأول هو ان نظرتي الى الواقع العراقي قد تغيرت بدرجة كبيرة بعد ان انهيت الكتاب، حتى شعرت انني كنت انظر الى العراق وسكانه، ومنهم عشيرتي وجيراني واصدقائي وامي وابي ونفسي كلوح مسماري لا افهم منه شيئا، وجاء علي الوردي ليحل لي بعضا من رموز ذلك اللوح. والثاني، وهو مؤلم حقا، انني قبل اكثر من سنة بقليل لم اكن اعرف شيئا عن علي الوردي ولم اسمع به حتى. ومما زاد المي، انني بحثت عن سيرة حياته فعرفت انه توفي ببغداد عام 1995، وكنت في تلك السنة طالبة جامعية. اي انني عاصرت هذا العالم النادر وكنت اعيش في المدينة نفسها التي عاش ومات فيها ولم اكن اعلم. بل حتى ان خبر وفاته لا اذكر بانه اقلق سبات تلك المدينة.

من المعروف ان علم الاجتماع وعلم التاريخ وثيقا الصلة ببعضهما. ولكن هل من الممكن ان تؤدي هذه الصلات الى ان تتشابه اقدار علي الوردي مؤسس علم الاجتماع العراقي والتاريخ العراقي؟

bull;قدر علي الوردي:

لا شك في ان علي الوردي مشهور جدا في اوساط المثقفين، ولا شك ايضا في ان من يتصل بهؤلاء المثقفين قد قرأ له شيئا او سمع باسمه على الاقل، ولا شك كذلك ndash; وهنا تكمن المصيبة ــ ان أغلب المتعلمين في العراق من الاجيال التي ما زالت شابة والاجيال الناشئة لا يعرفونه بتاتا.

قد لا تبدو السطور السابقة مثيرة للغرابة فهذا هو حال الكثير من المفكرين والمبدعين العراقيين. ولكي نبرز مدى غرابتها لنفكر بمدى شهرة طه حسين في مصر مثلا لندرك الفارق. وللامعان في توضيح هذا الفارق لنتخيل مذيعتين تلفزيونيتين: تدور احداهما في شوارع محافظة عراقية والاخرى في شوارع محافظة مصرية وتسألان سؤالين بسيطين اولهما (من هو علي الوردي؟) وثانيهما (من هو طه حسين؟) ولك ان تتخيل كم مصريا سيعرف طه حسين وكم منهم سيعرف علي الوردي. وكم عراقيا سيعرف علي الوردي وكم منهم سيعرف طه حسين. وهنا ادعو الله من كل قلبي ان لا تحاول احدى القنوات الفضائية تطبيق هذه الفكرة لان النتائج على ما اظن ستدمي قلوب المثقفين العراقيين. ولو أن حال الواقع العراقي، اليوم، لا يبالي بإدماء الابدان فمن سيبالي بإدماء القلوب.


وتظل فكرة المذيعة المتجولة حاملة السؤال تدور في مخيلتي، فتارة اتخيلها وقد التف حولها مجموعة من اتباع quot;جيش المهديquot; وقد تلفع بعضهم باكفان، واتخيلها تارة اخرى، وسط مجموعة من quot;المجاهدينquot; المتلمثين بغترهم. هنا اترك، للقارئ اللبيب، ان يتخيل ما يحلو له من الاجوبة التي يمكن ان تتلقاها هذه المذيعة، هذا على فرض انها تستطيع فعلا ان تتجول بين هؤلاء او هؤلاء وفرض المحال ليس محال. واتخيلها ايضا وهي تدور بسؤالها في احدى الجامعات العراقية او تعرضه على موظفين من متوسطي الاعمار في احدى وزارات الدولة او دوائر القطاع الخاص وايضا اترك نوع الاجوبة لمخيلة القارئ.

يمكن القول ان سبب شهرة علي الوردي بين المثقفين، وغيابها تقريبا، بين المتعلمين قد حدث بفعل فاعل. فمن المعروف عن الشعب العراقي انه محب للقراءة، او على الاقل كان كذلك الى فترة قريبة قبل ان يجرفه بعيدا عنها الوضع الاقتصادي المتردي في فترة الحصار ثم الوضع الامني الكارثي الذي لحقه الآن. ولا شك ان التضييق والمحاربة اللتين مارستاهما الحكومات المتعاقبة بحق هذا العالم الجليل كان لهما الاثر الكبير في عدم تشرب طروحاته الفكرية من قبل عموم الشعب او على الاقل المتعلمين منهم.

يقول الوردي في مقدمة كتابه (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي): quot; كنت اقوم بندوة تلفازية في محطة تلفزة بغداد عام 1960، كان عنوانها (انت تسأل ونحن نناقش) وقد وصلتني من جراء ذلك رسائل كثيرة يسألني فيها اصحابها حول بعض مشاكلهم الاجتماعية. وقد استفدت من هذه الرسائل فائدة غير قليلة، ولا ازال احتفظ بها، اذ اعتبرها مرجعا لدراسة المجتمع العراقي. فهي تمثل نوع المشاكل الاجتماعية التي يشكو منها بعض اهل العراق، لا سيما الجيل الجديد منهم، وما هو الصراع النفسي الذي يعانونه تحت وطأة تلك المشاكل. ويؤسفني ان اقول ان quot;المسؤولينquot; لم يرضوا عن تلك الندوة، ولم تلق هوى في قلوبهم. فامروا بالغائها. وبهذا انقطعت عني الرسائل التي كنت استفيد منهاquot;. وفي هامش الصفحة ذاتها كتب:quot; اجرت احدى الصحف البغدادية استفتاءا حول افضل ندوة تقدمها محطة التلفزة في ذلك الحين. فكانت نتيجة الاستفتاء: انها ندوة (انت تسأل ونحن نناقش). ولم تمض على هذا الاستفتاء سوى مدة قصيرة حتى الغيت الندوة بلا اعتذار. وليس هذا بالامر العجيب في هذا البلد quot;الامينquot; quot;.

في مقالة للكاتب عبد الستار البيضاني بعنوان ( ذكرى علي الوردي الصامتة) يقول:quot; جميعنا نتذكر ان رحيل الوردي في تموز 1995 لم يحض بأهتمام لائق من النظام السابق ومؤسساته الثقافية،سواء في تبني علاجه أوتشييعه وأقامة الفعاليات الخاصة بهذه المناسبة، والغريب ان الأهتمام أيضاً جاء من جهات غير عراقية!، حيث تبنى الملك حسين ملك الأردن نفقات علاجه، وقد أثار هذا الأمر حنق الوسط الثقافي العراقي في حينها عندما تجاهل النظام السابق هذه المناسبة عن سابق أصرار وتعمد، ولأسباب معروفة لأغلبية الوسط الثقافي، لكننا لانعرف الأسباب التي جعلت الأوساط الثقافية العراقية الرسمية والمدنية أن تتجاهل هذه المناسبة الآن، ليس فقط لأهمية هذا العالم الذي يحتل مكانة متميزة على صعيد الثقافة العراقية والعالمية، وإنما لكونه أحد اهم الرموز العراقية التي تعرضت للتهميش والأقصاء في زمن النظام السابق بدليل منع طبع أغلب كتبهquot;.

لا شك ان هذه المحاربة التي قاسا منها علي الوردي كان لها الاثر الكبير في وضع فكره تحت الاقامة الجبرية في برج عاجي لا يدخله الا المثقفون ومنعه من الاختلاط بعامة الناس فلم يفعل فعله في تجنيب المجتمع من الكوارث التي تنبأ بوقوعها ولم تلق تحذيراته اذانا صاغية لدى الساسة كما لم يـُسمح لها ان تطرق اذان المجتمع.

bull;قدر التاريخ العراقي:

لو راجعنا المناهج المدرسية المخصصة لمادة التاريخ في العراق لوجدناها مكرسة اما لتاريخ الحضارات القديمة او للتاريخ الاسلامي اوللتاريخ العربي الحديث. وفي الحالة الثالثة يجري تناول تاريخ العراق بقدر تناول تاريخ مصر او سوريا او ليبيا. وتركز تلك المناهج على افراد برزوا لسبب او لاخر او على احداث هامة ـ كالثورات مثلا ـ ومواقف بطولية وفترات مزدهرة حتى وان حدث أي من ذلك في بلد آخر غير العراق. كما انها تتجاهل ذكر الحوادث التي قد تشين ماضينا (العتيد) ولا تعنى بتصوير الجوانب المختلفة للواقع الاجتماعي لعامة الناس. فاذا ما خلت فترة ما من الامجاد والمآثر لفها الصمت والغموض. ولو سألنا أي متعلم عراقي من حملة الشهادات، من غير المتخصصين في التاريخ، عن محمد علي باشا واسرته او عن سليمان الحلبي أوالجنرال كبلر فانه على الاقل سيتذكر ان هذه الاسماء قد مرت عليه في ايام الدراسة. اما لو سألناه عن اسماء ولاة بغداد في فترة الدولة العثمانية او عن احوال العراق في تلك الفترة فقد لا يملك أي اجابة. وحال مناهج مادة التاريخ هذا يكاد ينطبق على كافة الاجيال العراقية منذ اول جيل بدأ بارتياد المدارس وحتى اليوم.

لقد كانت المواد المنتقاة لتعبئة المناهج الدراسية ـ وما زالت ـ تتناسب دائما مع رؤية الحكام عما يجب ان يرسخ في ذاكرة المتعلمين ويشيع بين عموم الشعب من حوادث التاريخ وما يجب ان يبقى حكرا على طبقة المثقفين. ربما لا يصح تماما ان نحمل الحكومات المتعاقبة تبعة هذه الجريمة بحق الدكتور الوردي والتاريخ العراقي فالحكومة كما يرى علي الوردي نفسه هي بنت المجتمع الذي انبثقت منه وهي تحمل ادواءه وعيوبه وبناء على ذلك يكون المجتمع نفسه قد ساهم ـ بطريقة غير مباشرة ـ في هذه الجريمة.

يخصص الدكتور علي الوردي في كتابه المذكور انفا فصلا عنوانه (الحرب الدائمة في العراق) يصور فيه النزعة نحو التكتل والتعصب ومن ثمة التقاتل. ويذكر امثلة متعددة لحوادث وقعت في القرن العشرين، كانت التكتلات فيها تحدث احيانا لاسباب شديدة الغرابة كأن يتكتل جمع من الجنود المسافرين في قطار ضد جمع من الطلاب المتواجدين في نفس القطار على اثر مشاجرة بين طالب وجندي فيشب نزاع بين المجموعتين على اثرها. وقد يحدث التكتل والتقاتل احيانا اخرى لاسباب قبلية او مناطقية. والذي يقرأ هذا الفصل لا بد من ان تمر في خاطره المقولة المأثورة ( التاريخ يعيد نفسه ). هذه المقولة اصبحت شبه عقيدة راسخة ولا يفتأ بعض الاعلام الناطق بالعربية يرددها على مسامعنا في برامج الحوارات السياسية، وذلك لكثرة التشابة بين الماضي والحاضر الذي يلحظه المثقفون والمحللون السياسيون الذين يطلعون علينا في تلك البرامج. وهذه الجملة تحمل رائحة القدرية، فـلا اسم فيها ولا ضمير يدل علينا، والفاعل والمفعول به في هذه الجملة هو التاريخ، وما نحن اذن الا نقطة تدور بلا أي ارادة منها في دائرة التاريخ المغلقة ولا تملك الا ان تعود مرارا وتكرارا الى اطوار قد مرت بها من قبل، وليس علينا اذن سوى ان نستكين لذلك القدر. ولو كان قائل هذه الجملة ـ ولا بد انه احد المثقفين ـ قد استبدلها بجملة اخرى تحمل نفس المعنى ولكنها ابسط واقل شاعرية وهي ( نحن نكرر اخطاءنا ) لكان قد حفـّز العقول لتتسائل عن السبب ولن يكون من الصعب حينها ان نكتشف ان احد الاسباب وراء ذلك هو جهلنا بتاريخنا من جانب وجهلنا بطبيعة المجتمع الذي نعيش فيه من جانب اخر.

كان قدر علي الوردي يشبه قدر التاريخ العراقي فكلاهما مشهور في اوساط المثقفين، محارب من قبل الحكام ومجهول من قبل عموم الشعب. قدر واحد، او جريمة واحدة، ارتكبت بحقهما جرّت علينا عقوبتين طبيعيتين مختلفتين تماما: اولاهما ان يبقى التاريخ يتكرر مرة تلو اخرى، وثانيهما ان لا يتكرر علي الوردي ابدا وكلا العقابين اليم جدا.

رفل عبد الجبار

كاتبة واعلامية عراقية