القضية الكردية في المؤتمر الثاني لجبهة الخلاص كان لها الحضور الأكبر وقتا والأكثر متكلمين. وكان البيان الختامي قد أكد من جديد على البند الثاني عشر من المشروع الوطني للتغيير الذي أقر في المؤتمر التأسيسي للجبهة والذي ينص على- لقد أفرزَتْ سياسةُ العزل والإقصاء والتمييز أضراراً كبرى، صدّعت الوحدةَ الوطنية، وفي مقدمة هذه الأضرار الظلمُ الفادحُ الذي أصاب الشعبَ الكرديّ، شركاءَنا في الوطن والمصير، مما يوجبُ إزالةَ أسباب الظلم ومعالجةَ نتائجه في إطار الوحدة الوطنية، وفي المقدمة ممارسةُ حقوقه السياسية والثقافية كبقيّة مكونات المجتمع السوري- أعتقد أن هذا النص من الوضوح بحيث أنه يشكل أرضية سياسية وحقوقية وقومية لقيام شراكة حقيقية بين الحركة الكوردية وبقية أطياف المعارضة السورية.
وأعتقد أن أغلبية من كتب من الأصدقاء الأكراد عن موقف الجبهة من القضية الكردية، إما أنه كتب نتيجة لموقف مسبق، أو أنه لم يقرأ النص بشكل جيد. ولا يعني بالمطلق أنه نص لا ينقد ولا يناقش! أبدا بل أعني أن الانتقادات التي وجهت تنطلق أساسا من قصوية الموقف المختلف عليه أصلا. والذي يحاول الكثير من الناشطين الكورد التعاطي معه على أرضية منطق الهوية. وهنا لابد لنا من التعريج على أزمة الخطاب القومي المبني على هذا المفهوم الضيق. ولا نريد الدخول في التسميات بل نورد مباشرة ملاحظة أولى:
إن المتتبع للخطاب الهووي القومي في التكوينات السورية يجد: أن كل مكون مبني على أساس هذا الخطاب يعتبر نفسه وقوميته أصل العالم، وأصل المنطقة وأصل الثقافة. وهذا ينطبق أولا على العرب والكورد والآشوريين وبعض ناشطي الحركة السورية القومية الاجتماعية أو من في فضاءهم..القائمة تطول. كل هذا التحشيد الهووي يطبق بشكل مباشر على فهم مسطح لمفهومي الأرض والإنسان. فالجميع يعتبر أن هذه الأرض له وهو أصل حضارتها من جهة والآخرون محتلون من جهة أخرى، وهم جاليات إما كوردية أو عربية أو آشورية! وتزداد شراسة السجال عندما نصل إلى الحديث عن أن العرب السوريون يحتلون الجزيرة السورية! أو عندما نصل إلى أن الأكراد جالية جاءت من تركيا ومن العراق. والملفت للنظر في هذا الموضوع أن السلطة في دمشق لا تعتبر نفسها طرفا في هذا الجو! ولا تدلي بدلوها أبدا إلا قمعا أو حجبا للحوار والفكر والسياسة. وكأن النقاش هو حول بلد آخر. وهذا الحوار يقودنا للحديث عن الوطنية السورية.
وهذه ليست محض نقاشا نظريا، بل هي محاولة لتكثيف الحالة السجالية التي تولد مزيدا من عدم الثقة! لأن الحوار يتم على أرضية فرقاء-هويات- وليس بناء على شركاء في مجتمع واحد أو من المفترض أن يكون مجتمع واحد لدولة واحدة. وهذه الوطنية السورية في مؤداها الأخير توضع ترميزي في أي فرد من هذا المجتمع/ الطموح. وفي المؤتمر كانت هنالك ملاحظة واضحة جدا: وليعذرنا المشاركين على صراحتنا في نقل انطباعاتنا هذه- كان غير الكورد كوردا بهذا الشكل أوذاك رغم بذور الحساسية والتعصبية العربية والإسلامية وكانوا سوريين! لكن المشاركين الكورد عموما: لم ألحظ عليهم أي ملمح سوري يساهم في دفع الحوار حول الوطنية السورية-كشركاء- قدما إلى الأمام في مجمل مداخلاتهم. والتكثيف البسيط يقول أيضا التالي من مجمل هذه المداخلات: أرض الجزيرة السورية هي كوردستان الغربية ويجب أن تسلموا بهذه الواقعة من جهة وتسلموا أن الكورد وحدهم يقررون مصيرها، وما تبقى من ساكنين هم إما محتلين عرب وجاليات عربية أو آشوريين وسريان وكلدان منقرضين! وهنا نحن لا نأول بل ننقل فحوى الخطاب الكوردي في هذا المؤتمر. على الرغم أن الوضع السوري يقتضي البحث في الدولة المغيبة، والمبتلعة من قبل طاقم الحكم هذا من جهة، ومن جهة أخرى لتتأسس كحاضن للوطنية السورية على قاعدة القانون وحقوق الإنسان. والحديث عن رموز الوطنية السورية، حديث ذو شجون. أليس من الوطنية السورية أن تتحول اللغة الكوردية إلى رمزا من رموز الوطنية السورية كحال اللغة العربية رغم أن اللغة العربية هي لغة الأغلبية وليس الأكثرية فقط. أو كأن يأتي رئيسا منتخبا لسورية مسيحي أو كوردي أو آشوري، ألا يتحول هذا الأمر إلى رمز من رموز الوطنية السورية التي نطمح إليها؟ أليس من الملمح السوري أن تجلس طالبة محجبة بجانب طالب مسيحي على مقاعد الدراسة في الجامعات السورية أو في العمل في المؤسسات الخاصة والعامة كشيئ عادي!؟
ليست الوطنية السورية بالنسبة لنا ظرف سياسي! وخطابات حول الاستقلال عن الإمبرياليةأو الدخول في مزدوجة الأصالة-الحداثة..الخ بل هي الرموز التي تتلبس المواطن السوري في تفاصيل حياته اليومية، سواء كان في باب توما أو القرداحة أو في عفرين. يستطيع القول من خلالها(أنا سوري سواءا كان عربيا أو كورديا أو آشوريا، سنيا أو درزيا) هذه الرموز التي لا يمكن تكريسها وإنتاجها وإعادة إنتاجها إلا في ظل الدولة السورية الديمقراطية. كيف نكون عرب وسوريين أو كيف نكون مسيحيين وسوريين، أكراد وسوريين والقائمة تطول؟
الوطنية السورية لا يمكن إنتاجها، بناء على تصورات أحزاب ذات بعد رسالي سواء قومي عربي أو قومي كوردي أو إسلامي، بل يجب تكريس هذا البعد الرسالي في عملية مثاقفة من جهة! وتوضعات سياسية تستطيع أن تكون توضعات سياسية لكل السوريين! حيث لازلنا نرى أن ماهو قائم هو جملة من التحالفات سواء كانت استراتيجية أم تكتيكية، بين فرقاء كل منهم يجد نفسه في الفعل الرسالي هذا نحو: دولة إسلامية للأمة! أو نحو دولة كوردية، أو نحو دولة عربية، وفي ظل هذا الغياب للحوار الحر نجد أن سورية كلها أصبحت محمولة على هذا البعد الرسالي لهذه القوى، وليست محمولة على الهم السوري رغم أن الحالة العراقية تعطينا أمثلة واضحة: حيث قوى الحكم هي فعلا قوى ذات طابع رسالي مافوق وطني ومافوق دولتي!وحيث الدولة الحالية هي معبر ووسيلة بالدرجة الأولى. وهذا ما ينتج عنه استهتارا بمفهوم الدولة. ونختم بسؤال: هل يمكن للقوى القومية- بوجهيها الكوردي والعربي- والإسلامية أن تستمر بدون هذا التجييش الرسالي؟
...يتبع
غسان المفلح
التعليقات