مع بداية العام الجديد حيث ما زال العراقيون غارقين في شتى الأزمات، التي يراد فرضها عليهم وتحويلها إلى طريقة حياة، أي دعوة الإنسان العراقي أن يتخلى عن حقوقه وإنسانيته ليصبح عبداً تكبله الهموم ويقوده اليأس والإحباط إلى حيث لا يدري !! والسبب هو أن أحزاب المحاصصة وحكومة المكونات الثلاث أدخلت نفسها والمجتمع في ورطة سياسية ولا تعرف كيف تخرج منها!!
هذا هو واقع الحال الذي لا يستطيع أن ينكره أحد. ولكن، ولأن منطق الحياة وطبيعة الصراع السياسي، بل وطبيعة المجتمع العراقي نفسه، لا يمكن أن تسمح بتحويل العبودية والعيش تحت وطأة الأزمات إلى ثقافة عامة، لذلك فإن قادة هذه الأحزاب بدأوا يشعرون بالخطر على مواقعهم ومستقبلهم السياسي، ناهيك عن فقدانهم احترام وثقة الرأي العام بهم. وإذا كان بعضهم يعتقد أن التنازل عن الكرامة وسرقة المال العام وخيانة الضمير هي من مكونات شخصية (السياسي الموهوب)!! فإن جميع قيادات هذه الأحزاب بدأت تقلق من إنعكاس كل هذه المساوىء على موقف جمهور الناخبين منها، سواء في الإنتخابات المحلية التي طال إنتظارها، أم الإنتخابات العامة القادمة التي تشير كل الدلائل على أنها ستجرى مبكراً كمحاولة لإخراج البلاد والعباد من هذا المآزق، حيث لا بد للمجتمع العراقي أن يلقي بأسماء هذه الأحزاب خارج صناديق الأقتراع، بل خارج المعادلة السياسية برمتها.
قلق هذه القيادات تجسد مؤخراً بتوجه إعلامي جديد، هو محاولة لإلقاء مسوؤلية الأزمات على جهات مجهولة!! وذلك من خلال لقاءات وندوات يقوم خلالها هؤلاء المسوؤلين الذين صنعوا الفساد بإيديهم، بإدانة الفساد والمحاصصة والمحسوبية واستغلال المناصب!! كي يظهروا أمام الرأي العام بمظهر المنقذين والقادة النزيهين وكأن المأساة العراقية هي مسرحية مفتوحة وبدون ضوابط فيستطيعون تغيير أدوارهم متى شاؤوا وكيفما أرادوا!!
لقد بدأ هذا التوجه الجديد برهم صالح نائب رئيس الوزراء وعبد العزيز الحكيم رئيس (قائمة الإئتلاف) في أجتماعين منفصلين ولكن في اليوم نفسه، الأول هو (الملتقى الوطني لمكافحة الفساد) الذي اقيم ببغداد الخميس 3-1-2008، والثاني هو (الملتقى الحادي عشر للمبلغين والمبلغات) في مدينة النجف.
وعندما نتحدث عن (قلق) هذه الأوسط الرسمية والحزبية على مستقبلها السياسي فنحن لم نأتِ بشيء من خيالنا، فقد عبر صالح عن هذا القلق بقوله ( الفساد الاداري الذي تواجهه الحكومة هو التحدي الأكبر والخطير الذي يهدد الجميع وينذر بضياع ما تحقق في العراق منذ العام 2003 ) أم الحكيم فقد قال ( إن الفساد يمكن أن يطيح كل الانجازات ). وبالتأكيد فإن العراقيين يعرفون أن ما يقصدانه ب ( الانجازات ) أنما هي الانجازات التي حققوها لأنفسهم ولنوابهم وقيادات أحزابهم وليس للعراقيين الذين ذاقوا الأمرين من سياسات هذه الأحزاب.
ولكن ما الذي حدث خلال اللقائن وكيف سارت الأمور:
خلال ملتقى بغداد قال رئيس مفوضية النزاهة بالوكالةً السيد موسى فرج ( إن مبادرة نائب رئيس الحكومة برهم صالح لتنظيم ملتقى لمكافحة الفساد تُشكل مفارقة... اذ ان الحكومات عادة ما تتهم بالفساد )! لكن السيد فرج لم يكن بوسعه أن يكون صريحاً أكثر مما تحتمله الظروف فكان قد أضاف واصفاً المفارقة بأنها (.. من النوع المرغوب )!! للتخفيف من وقع المفارقة لأنها في الحقيقة ليست من النوع المرغوب مطلقاً، بل هي من النوع الغريب جداً، لأن الهدف الحقيقي من وراء هذا التوجه الحكومي الجديد هو مصادرة عقول العراقيين بعد أن تمت مصادرة حقوقهم وأمنهم ومستقبل أبناءهم. مصادرة عقولنا كي لا نشعر بأن الحكومة وأحزابها التي تمارس الفساد وحولته إلى مافيا علنية، هي المسؤولة عن ذلك،بل أن أشباحاً جاءتنا من كوكب آخر هي التي تتحمل المسؤولية!!
فعندما يقول السيد برهم صالح ( إن الفساد المالي والاداري ينخر في جسد الدولة نتيجة عدم رسوخ المؤسسات وسلطة القانون وغياب المساءلة والشفافية الحقيقيتين.. إن الاختلالات التي تشهدها البلاد في الوضع السياسي والتي تتمثل بمعايير المحاصصة والمحسوبية الحزبية حوّلت الوزارات والمؤسسات الاخرى الى ضيعة لهذه الجماعة او تلك...لذا تشعبت ظاهرة الفساد وتعقدت مسبباتها. وتجاهل المشكلة امر خطير وفساد بعينه والاعتراف بوجودها والتوجه لمواجهتها يعتبر بداية الحل لها )!
أليس هذا نوعاً جديداً من الضحك على ذقون المواطنين ؟! أليس هذا الكلام ينطوي على واحدة من أغرب الغرائب في (العراق الجديد) ؟! فلو كان المتحدث من المعارضة البرلمانية أو صحفي مستقل، لفهمنا الأمر. ولكن حين يقول ذلك نائب رئيس الورزراء وأحد قادة المحاصصة بين (أحزاب المكونات الثلاث)، فهنا تكمن المفارقة والغرابة!! فالكل يعرف أن هذه الحكومة وأحزابها هي المسؤولة عن الفساد والمحاصصة والفتن الطائفية وإنعدام الأمن والقلق السياسي المستمر في كركوك وكل ما أفسد حياتنا وحولها إلى جحيم حقيقي.
ولكن يبدو أن هدف المسؤولين من هذا التوجه - وستثبت الأيام أنه مجرد توجه إعلامي تضليلي - هو أن يقولوا لنا أن الأشباح هي المسؤولة عن هذه الأزمات التي تغرقون فيها، وها نحن (حكومتكم الوطنية) قادمون لإنقاذكم فتريثوا قليلاً، يعني خمس ست سنوات أخرى ليست مشكلة !!
وهكذا أصبحنا نحن العراقيين كالأيتام في مأدبة اللئام!!
لكن السيد راضي الراضي المسؤول السابق لهيئة النزاهة، الغير مرضي عنه حكومياً لأسباب لا نعرف حقيقتها، تحدث مساء نفس اليوم لأحدى الفضائيات، متسائلاً، بما هو قريب من النص الحرفي ( مكافحة الفساد ضرورية، لكنهم يريدون مناقشة موازنة العام 2008 في البرلمان !! والسؤال: هل ناقش البرلمان موازنة العام الماضي ؟! ألا يعني الصمت على ما جرى لموازنة العام 2007 مصادرة للشفافية ؟) ونحن كمواطنين بدورنا نسأل السيد برهم صالح والسيد باقر الزبيدي وزير المالية: ألم يشهد العام الماضي فساداً غير مسبوق في جميع دول العالم، حيث تم تبديد الموازنة التي فاقت الأربعين مليارا دون أن تُحل أية أزمة من أزمات الخدمات أو التخفيف من البطالة أو أزمة السكن أو إعادة الكهرباء، أين ذهبت المليارات إذن ؟ ومن سرقها ؟ هل نحن الغالبية المفقرة والمهجرة ؟ أم الأشباح ؟ أم حكومتكم وأحزابكم ومجالس محافظاتكم التي تريدون إعطاءها مزيداً من الصلاحيات كي تنهب مزيداً من المليارات؟!!
ولكي نتأكد من الفحوى التضليلي للتوجه الحكومي الجديد، والأدوار المتناغمة بهذا الشأن، حيث أصبح المسؤولون عن الفساد هم الذين يرفعون أصواتهم ضد الفساد أكثر من ضحاياه !! وجدنا أن السيد عبد العزيز الحكيم وفي نفس اليوم ( يدعو الى التعاون مع اجهزة الحكومة في الكشف عن المسيئين الذين يصادرون حقوق الشعب)!! واكد خلال كلمة في (الملتقى الحادي عشر للمبلغين والمبلغات) على ( ضرورة الاهتمام بمحاربة الفساد الاداري والمالي في البلاد، الذي جعل العراق من البلدان الاكثر فسادا في الجانب المالي والاداري) واضاف (ان الظروف التي يعيشها العراق تعد ظروفا استثنائية لكن معالجة الفساد تحتاج ايضا الى اجراءات استثنائية ) وطالب هيئة النزاهة والقضاء ( بالعمل على محاربة ظاهرة تفشي الفساد، ومعالجة القضايا الاخرى بحيادية بعيدا عن التسييس والخضوع للجهات السياسية)!!
ألا يبدو هذا الكلام غريباً ؟ وإلاّ من هي الجهات السياسية التي يتحدث عنها الحكيم؟ ألستم أنتم الجهات (السياسية المسؤولة) التي تشرف على ماكنة الدول وتديرها ؟! فإذا كنتم لا تعلمون بما يجري، فهذه مصيبة، وإذا كنتم تعلمون فالمصيبة أعظم.
لكن السيد يضيف ( ان على الجهات المسؤولة عن الاعتناء بالشرائح الفقيرة وعوائل الشهداء والسجناء الذين لم نقدم لهم الدعم الكامل لحد الان ولابد من اتخاذ اكبر الجهود لارجاع العوائل المهجرة الى مناطقها ) ونحن بدورنا وبعد أن طفح الكيل فعلاً، نسأل الله عز وجل أن يمنحنا شيئاً من الصبر ورباطة الجأش كي نسأل السيد الحكيم: ما هي خلفية الفساد المالي والإداري وكيف تسير آليته ؟! من عيّن أنصاف المتعلمين بدرجة وزير ؟! ومن عين خريجي الأبتدائية بدرجة محافظين ووكلاء وزارات ؟! ومن أبعد الكفاءات العلمية والإدارية والشخصيات النزيهة ؟ ومن هو المستفيد من كل هذا الفساد حقاً ؟! ولماذا لا يناقش برلمانكم المليارات المهدورة في موازنة العام الماضي!! مليارات يا سيد وعوائل وأرامل الشهداء في أسوأ حالة !! وملايين الشباب دون عمل! فمن المسؤول عن كل هذه المظالم والتجاوزات ؟! نحن الذين حرمتمونا من كل شيء ؟ أم أنتم الذين تمتعتم بكل الأمتيازات وأصبحتم أثرى الأثرياء، المقيمن منكم والهاربين من وجه العدالة ؟! أليست هي أحزابكم ؟! أم أن أشباحاً جاءتنا من كوكب آخر، كما تريدون أن توحوا إلينا، هي المسؤولة عن كل ما جرى ويجري؟! وهل يعني هذا التوجه الحكومي الجديد، أن على الضحايا أن يبقوا صامتين ؟! أليس الصامت عن الحق شيطان أخرس ؟! أم أن عندكم تأويلات أخرى لتعاليم الإسلام التي تربينا عليها؟!
وأخيراً: هل يسمح وقت المسؤولين الحكوميين والحزبيين أن يُجيبوا على هذه الأسئلة أم أنهم مشغولون بمكافحة الفساد؟!
كريم عبد
التعليقات