فى اليوم التاسع من شباط الأسود عام 1963 فتح أخس الناس نيران بنادقهم على واحد من أشرف قادة العراق فى اي وقت من الأوقات، ان لم يكن أشرفهم قاطبة. كان الزعيم عبد الكريم قاسم أول عراقي يحكم العراق منذ أكثر من خمسة آلاف سنة، وأول حاكم عراقي غادر الدنيا ولم يملك دار سكن، ولم يأخذ أكثر من مرتبه الشهري الذى كان ينفق معظمه على الفقراء والمحتاجين، وكان أول حاكم أحب كل العراقيين على اختلاف قومياتهم واديانهم وطوائفهم ومللهم ونحلهم، وهو الوحيد الذى أحبه العراقيون، كل العراقيون، عدا قلة ضئيلة ضالة منهم ما بين أعمى وأخرق وحسود ومنافق ودجال اثيم. ساعدهم ودفعهم لارتكاب الجريمة النكراء مجرمون من وراء الحدود، ما بين طامع حقد على الزعيم الذى لم يسلمه العراق لقمة سائغة، فانطلق يسبه ببذىء الكلام، وأطلق كلابه المسعورة تنبحه ليلا ونهارا، وزود أعداءه بالمال والسلاح لاسقاطه، ومستعمركان يأخذ الجزء الأكبر من خيرات العراق ويحرم أهله من العيش الكريم، واقطاعيون منحهم العثمانيون أجود الأراضي الزراعية بدون وجه حق ليستعبدوا الفلاحين الفقراء المعدمين. اتفق هؤلاء كلهم على اسقاطه، يؤازرهم الحمقى والبله والمغفلون من العراقيين مدنيين وعسكريين ومنهم رفاقه فى السلاح وتلامذته فى الكلية العسكرية، وأحزاب مجرمة اتخذت من القومية والدين حجة لاسقاطه، و عسكريون جبناء فضلوا البقاء فى بيوتهم فى يوم 8 شباط المشئوم، ولم يغادروها للالتحاق بوحداتهم والدفاع عن وطنهم وأبناء شعبهم وقائدهم.
قبل يومين من ذلك التأريخ كنت فى زيارة لأحد أصدقائي فى حي الضباط من بغداد الشرقية، وقررنا أن نذهب صباح اليوم التالى (الجمعة 8 شباط/فبراير1963) لزيارة صديق آخر لى وهو ضابط كبير فى معسكر فى بعقوبة، وقررنا الذهاب بسيارة أجرة. كان الجو فى بغداد صباح ذلك اليوم صحوا جميلا منعشا، فأخذنا حافلة (باص) لتوصلنا الى ساحة التحرير حيث نأخذ سيارة الأجرة. وصل الباص الى حديقة الأمة وتوقف فجأة وصعد جندي يضرب رأسه بكلتا يديه ويصرخ كالمجنون: (لقد قتلوا الزعيم). وسمعنا أزيز الطائرات وهى تطير على ارتفاع منخفض، وبعد لحظات من الذهول التام غادر الركاب الباص مسرعون، وعبر صديقى الضابط الشارع الى الجانب الآخر ليأخذ الباص العائد لمدينة الضباط، وعاد الى بيته ليمكث فيه بدلا من الالتحاق بوحدته والدفاع عن قائده، وكذلك فعل الضباط الجبناء الآخرون. وركضت نحو الساحة أبحث عن سيارة اجرة لأعود الى داري فى غربي بغداد.
اختفت او كادت تختفى السيارات من الساحة، والناس تتراكض على غير هدى فى كل الاتجاهات، ثم شاهدت سيارة اجرة وأشرت الى السائق فتوقف وصعدت الى السيارة، وتدافع الناس للصعود اليها بالرغم من معارضة السائق، وأخيرا تحركت السيارة لعبور جسرالجمهورية، وقال السائق ان ما يحصل هى اشاعة غير صحيحة فقد شاهد الزعيم يخرج من بيته فى سيارته العسكرية متوجها الى وزارة الدفاع. وما ان وصلنا الى منتصف الجسر حتى أوقف السائق السيارة وطلب منا مغادرتها لأنه بدأ يشعر بالقلق ويريد العودة الى بيته وعائلته. غادرنا السيارة مكرهين وبدأت أطول مسيرة لى على القدمين، من الباب الشرقي الى مدينة البياع. وبعد أكثر من ساعتين وما ان عبرت جسر الخر حتى شاهدت مدنيين (بعثيين) يحملون البنادق وهم ينظرون الى جثة جندي على الأرض ما زال يتخبط فى دمه. ولم ينبس أحد ببنت شفة، فقد كان الذهول والرعب والخوف من المجهول يخدرأوصال الجميع.
وصلت الى بيتى حيث وجدت الجميع قد تسمروا فى مقاعدهم يحملقون فى جهاز التلفزيون، وقد فرت الدماء من وجوههم، واسرعوا نحوى يستفسرون عما حصل وانا أكثر منهم جهلا بما جرى وما يجرى. كان التلفزيون يعرض فيلما عن مدينة الثورة التى شيدها الزعيم للفقراء المحتاجين عندما انقطع البث، وسمعنا المذيع من الراديو يكرراذاعة انذار صادر من ضباط الانقلاب موجه للمسئولين عن محطة التلفزيون بقطع البث او مواجهة العقوبات الصارمة. وبدلا من عبارات الاطراء والمديح التى تعودنا على سماعها للزعيم، فقد بدأ المذيعون وعلى رأسهم المدعو قاسم نعمان السعدي بكيل الاهانات وأقذع الشتائم له، وانزلوه من مرتبة الزعيم الأوحد التى رفعوه اليها الى مرتبة المجنون الأرعن!.
وفى اليوم التالى وبعد ليلة أرق وفزع وغضب وحيرة، بث تلفزيون بغداد أفظع مأساة نزلت ببغداد فى عهدها الحديث. ظهر الزعيم وذراعيه مقيدتان خلف ظهره، ببزته العسكرية، وهو ينظر حواليه مبتسما للجميع، وتقدم أحد الجنود لوضع عصابة سوداء على عينيه فرفضها. ثم وجه اليه الجنود بنادقهم وأطلقوها دفعة واحدة، فمال الى الأرض على جانبه الأيمن والدماء تسيل منه بغزارة. تقدم اليه أحد الجنود يحمل رشاشة بيده اليسرى ومد يده اليمنى الى رأس الشهيد وقبض على شعره وجذبه وبصق فى وجهه الذى لم تزل الابتسامة مرسومة عليه.
شعرت بالخدر والذهول، ولم أعد أسمع عويل وبكاء من كانوا حولى، و أغمضت عيني منتقلا الى الماضى السحيق، مستعرضا ماضى العراق حيث قتل على ارضه الحسين بن علي بن ابى طالب سبط الرسول الأعظم، وبعد مقتله بكيناه بحرقة وندم، وخمشنا الخدود ولطمنا على الصدورفى ذكرى مقتله، واليوم و بعد ما يقرب من ألف واربعمائة عام ما زلنا نلطم و يشج بعضنا رؤوسهم بالسيوف والسكاكين، نصيح ونولول وننسى او نتناسى اننا لم ندافع عنه، وسمحنا لأخس الناس بقتل أشرف الناس، بل ساعدناهم على ارتكاب جريمتهم النكراء. وتكررت المآسي وتشابهت، وتكدست الضحايا على مدى التأريخ، منهم من ندفنهم ونبكيهم، ومنهم من نعود الى نبش قبورهم ونخربها ثم نعود ونبنيها من جديد.
لم تكن جريمة انقلاب 8 شباط هي المحاولة الاولى لقلب نظام حكم الزعيم، فقد كانت اول محاولة بدأ تخطيطها فى الموصل يوم 15 تموز 1958 اي بعد يوم واحد من قيام الثورة. فقد عين الزعيم عبد الكريم العقيد عبد الوهاب الشواف حاكما عسكريا عاما للعراق. ولكن وبأصرار من عبد السلام عارف الغي ذلك التعيين، فحقد الشواف على الاثنين وبدأ يؤامر للاستيلاء على الحكم، وسانده كبار الاقطاعيين، وعلى رأسهم كبير شيوخ شمر الشيخ عجيل الياور الذى أضرت ثورة 14 تموز بمصالحه الخاصة ومصالح الاقطاعيين الآخرين من عوائل اقطاعية، أمثال عائلة كشمولة والعمري والمفتي والنقشبندي وآل نافق ونورى الأرمني (مسلم) وعوائل أخرى كانت متنفذة فى العهد الملكي وجلهم من (أغوات) باب البيض. وكان جمال عبد الناصر يفور حقدا على الزعيم الذى منعه من ابتلاع العراق، فاتفقت مخابراته مع المخابرات الأمريكية والبريطانيه، وبدأ تدفق المال والسلاح على الشواف الخائن، بمساعدة عشائر شمر القاطنة فى أراض على الحدود العراقية السورية عن طريق سوريا التى كان ناصر قد ضمها الى مصر، بالأضافة الى الدعم المادي من شركة النفط البريطانية فى عين زالة، وأنزلت قوات امريكية وبريطانية فى قبرص والأردن ولبنان. وهذه هى المرة الثانية التى حشدت فيها قوات غربية ضد الجمهورية العراقية الفتية، وكانت المرة الأولى حينما أرسلت بريطانيا قوات المظليين الكوماندوز المعروفة ب(الشياطين الحمر) وأنزلتها فى قبرص بعد اعلان النظام الجمهوري بأيام لغرض انقاذ الحكم الملكي، ولكن التفاف العراقيين حول قادة الثورة وسيطرة الجيش التامة على كافة انحاء العراق منعهم من التدخل. وأعلن الشواف تمرده فى يوم 8 آذار/مارس 1959 وصعدت اذاعة صوت العرب من القاهرة من تحريضاتها ونشر الأكاذيب مدعية بان أعوان الزعيم قد قتلوا عشرين ألفا من أعوان الشواف. وأخمدت الحركة بعد أقل من 24 ساعة على بدئها، وفوتت سرعة القضاء عليها الفرصة للتدخل الخارجي، وقتل الشواف من قبل بعض الجنود وضباط الصف من حراسه.
كانت قد ظهرت فى بغداد فى الأيام الأولى للثورة، صورا للزعيم عبد الكريم قاسم فى غرفة كان ينام فيها فى وزارة الدفاع، وظهرفيها الزعيم وهو يحلق ذقنه بينما كان عبد السلام عارف يصلي. ومنذ ذلك الحين بدأ عبد السلام يتظاهربالتدين وفق ما أشار عليه أصحابه، وذهب ايضا الى الحج لأكمال تلك المكيدة. وحاول مرة أن يقتل الزعيم ولكن الزعيم وبمساعدة أحد الحاضرين جرده من مسدسه وأمر باعتقاله. ثم عفى عنه وعينه سفيرا للعراق فى ألمانيا ولكنه عاد الى بغداد بدون ان يشعر وزارة الخارجية العراقية او أي مسئول عراقي آخر. وكان أتباعه فى العراق يشيعون خبر عودته لأرباك الأمور، ولكن الزعيم أمر باعتقاله فور وصوله وحجزه فى بيته.
وفى 7 تشرين الثانى/اكتوبر 1959 جرت محاولة أثيمة لاغتيال الزعيم، خطط لها البعثيون الذين لم يشاركوا فى عصيان الشواف، حيث قام بعض المسلحون المجرمون منهم ومن بينهم صدام حسين باطلاق النار عليه وهو فى سيارته عندما كان يخترق شارع الرشيد فى منطقة رأس القرية، وأصابوه فى كتفه وذراعه، وهربوا واختفوا فى الأزقة الضيقة القريبة. وأصيب صدام باطلاقة فى ساقه، واختفى فى تكريت حوالى ثلاثة أشهر، هرب بعدها الى القاهرة التى احتضنته هو ومن معه من المجرمين البعثيين.
وتكررت محاولات الاغتيال والانقلابات الفاشلة عشرات المرات، وأخيرا نجح الأوباش وتم لهم ما أرادوه صبيحة يوم 8 شباط الأسود عام 1963. كل تلك القلاقل كانت قد قللت كثيرا من قدرة الزعيم والوزراء الأكفاء الذين أوكل اليهم مسؤوليات تعمير البلد. ومع ذلك استطاع بناء آلاف المساكن الشعبية، والمعامل، ومشاريع الري، وأزال صرائف بغداد وأحل محلها المساكن الشعبية التى سميت فيما بعد (مدينة الثورة)، وبنى مستشفى مدينة الطب التى كانت تعتبر أكبر مؤسسة طبية فى الشرق الأوسط، ووزع الأراضي على الفلاحين، وأبعد الطابع الأسري والطائفي عن الحكم، وأخرج العراق من منطقة الاسترليني، وانسحب من حلف بغداد، وسن قانون النفط رقم 80 الذى استعاد بموجبه معظم الأراضي العراقية المغتصبة من قبل شركات النفط، وساهم فى تأسيس منظمة الأوبك، واسس جيش التحرير الفلسطيني، وبنى عمارات سكنية للفلسطينيين اللاجئين فى العراق، ووسع جامعة بغداد، وشرع قانون الأحوال الشخصية الذى حافظ على حقوق المرأة، وشق قناة الجيش، وبنى مساكن للضباط وضباط الصف،وسعى للارتقاء بمستوى العراق الى مصاف الدول المتقدمة. ووجدوا على منضدته بعد موته قانونا جاهزا لتوقيعه لتعديل قانون الجنسية العراقية الذى يقسم العراقيين الى درجات ( ألف و باء و جيم).
لم يكن الزعيم سياسيا ولا مارس السياسة، وكان ذلك أهم سبب فى سقوطه. فان الوطنية وحدها لا تكفى فى عالم يسوده الكذب والغدر والنفاق والخيانة. لذلك كانت مثله التى تمسك بها مثل (عفا الله عما سلف) احد العوامل التى أودت به. فقد عفى عن عبد السلام عارف بعد ان حكمت عليه المحكمة بالاعدام، وأطلق سراح من تآمروا عليه وعلى سلامة الوطن، وبذلك ساهم مساهمة غير مقصودة فى تدهور الأوضاع بالبلد، وآلت بالأمور الى ما هى عليه الآن. قال عنه الراحل علي الوردي فى كتابه (بين العلم والعقيدة): (انى أشعر بالعجز فى سياسة صف واحد من الطلاب حين يشتد الجدل بينهم، فكيف بالرجل وهو يقود ثورة كبرى كثورة تموز وفى مجتمع كالمجتمع العراقي).
كان الأكراد يريدون الانفصال، والشيوعيون يريدون مناصب عليا أكثر فى الحكومة، والقوميون يريدونه ان يعلن وحدة فورية مع مصر، وكأنه مخول بالتنازل عن العراق بدون استفتاء أهله، و المرأة تطالب بحقوقها والمعممون يمانعون ويتهمونه بالكفر، والأغلبية الصامتة كانت تترقب نتيجة كل تلك الصراعات ولا حيلة لها ولا قوة.
ها قد مرت خمسة وأربعون سنة على اغتيال الزعيم الشهيد، الذى عجزنا ان نتكرم عليه حتى بقبر صغير لجسمه المحشو برصاص الغدر والخيانة، بعد ان قام مجرمو البعث المباد بالقاء ذلك الجسد الطاهر فى النهر لتأكله الأسماك التى لم تدرك انها تأكل بقايا جسم أشرف انسان نذر نفسه للعراق وللعراقيين، كل العراقيين، بدون تفريق و تمييز، ووضع دمه على كفه وانطلق بقواته لتحرير بلده من الطغاة والمستعمرين، وتكالب عليه رفاقه بالأمس الذين غرتهم المناصب وخدعتهم القوى السوداء التى استولت على العراق لتنوء بكلكلها عليه أربعون عاما. وبينما كانت الشعوب الأخرى تتقدم وتنعم بالحرية والسلام و بما تقدمه لها العلوم الحديثة من تكنولوجيا للتخفيف من أعباء الحياة والاستمتاع بخيراتها، زجنا البعثيون المجرمون بحروب مدمرة أعادتنا الى ما كان عليه أجدادنا من سكان الكهوف فى العصر الحجري، الذين ربما كانوا فى أحسن حال مما نحن عليه اليوم. ولو عاد الزعيم لشاهد بلدا مدمرا وشعبا مشرذما هاجر ربعه الى الخارج، لشاهد شعبا فرقته الطائفية والعنصرية البغيضة، يقتل ويعذب بعضه بعضا، وتزداد الكراهية بين طوائفه، والحدود مفتوحة
أمام المجرمين الذين يتسللون الى داخل البلد ليعيثوا بأرضه فسادا فيقتلون أهله ويثيرون بينهم الأحقاد. ليجد شعبا لا يجد الغذاء ولا الدواء ولا الماء ولا الكهرباء، ليجد بلدا مدمرا تملأ شوارعه جيوش اليتامى والأرامل والمعوقون والعاطلون، سيجد بلدا يتنازع فيه كل من هب ودب للأستيلاء على الحكم، وكل يظن انه هو الأصلح وخططه هى الأنجح وهم أبعد ما يكونون عن ذلك. سيجد بلدا ينهبه أهله قبل الغرباء، و سيجد فيه جنودا غرباء أرحم به من أهله. بل سيجد أكثرأهل العراق يصرون على بقاء اولئك الجنود الغرباء على أرضهم ليحموا أنفسهم من بعضهم البعض. فهل هناك سخرية اكبر من هذه؟ و بلاء أكبر من هذا البلاء؟
عاطف العزي
التعليقات