بعد 29 عاما اين وصلت العلاقات الامريكية الايرانية؟


فيما تشارف الثورة الايرانية على اكمال عقدها الثالث ثقف ايران الدولة والثورة على اعتاب منعطف سياسي تاريخي غاية في الاهمية والخطورة، على الاخص ما يتعلق بتنظيم علاقاتها مع جبهة الشمال في هذا العالم والتي عادة ما تضم ناديا لاهم الفاعلين في صناعة القرار الدولي، وهذا ما وضع الايرانيين في موقف لا يسحدون عليه حتى ولو كانوا يجيدون سياسة المراوغة بامتياز.

حينما هبطت طائرة الخميني في مطار مهر اباد في وسط طهران عام 1979 قادمة من منفاه في فرنسا انذاك كانت الثورة الايرانية قد وصلت ذروتها مما ادى الى اسقاط حكومة بختيار رئيس الوزراء الايراني في وقتها وبالتالي سقوط مملكة محمد رضا بهلوي الذي غادر البلاد قبل ذلك تحت ذريعة العلاج.

هكذا انتصرت الثورة الايرانية وجعلت من ايران جمهورية بعد ان كانت مملكة وانتصر مرشدها الروحي الذي دعى الى تطبيق نظام ولاية الفقيه وهو نظام يضع الولي الفقيه في اعلى الهرم وفوق السلطات الثلاث وان الذي من حقه ان يعزل او يحاسب الولي الفقيه هو فقط مجلس الخبراء.

لكن الجمهورية الفتية وضعت نفسها في فوهة المدفع حينما رفع رجالاتها اصواتهم عاليا بشعارات تستفز المحيط الاقليمي لايران وذلك بعدما اعلنوها صراحة باستعدادهم لتقديم الدعم ( الاعلامي على الاقل ) لحركات التغيير والدعوة لتغيير الانظمة الدكتاتورية، اضف الى ذلك ان الثورة وعلى لسان زعيمها الاول اية الله الخميني كانت تدعو لمقاتلة اسرائيل ومحوها من الخارطة وهذا ما اثار حفيظة صانع القرار الدولي لاسيما الولايات المتحدة الامريكية مما جعل ايران تقبع تحت حصار اقتصادي وتتعرض لعزلة دولية لازالت تعاني منها حتى هذه اللحظة.

فالعلاقات الايرانية الامريكية ملف لازال ملتهبا برغم جميع جولات التقارب في خطوة هنا وخطوة هناك من قبل الجانبين، ومنذ مجيء الخميني الراحل وفي حقيبته لافتات تشير الى امريكا بـ ( الشيطان الاكبر ) بقيت ساحة العلاقات الايرانية الامريكية متذبذبة الى حد كبير، فبين اقتحام السفارة الامريكية في طهران واحتجاز من فيها على انهم رهائن وبين قرارات الحكومة الامريكية ( وعلى راس الهرم فيها قانون داماتو ) وبين تبادل الطرفين اللقاءات على هامش هذا المؤتمر او ذاك يبدو ان الطرفين لا يفارق كل منهما لغة الوعد والوعيد وصيحات التهديد، فيما تبدو بين فترة واخرى اغصان الزيتون تلوح في الافق على استحياء.من قبل هذا الطرف او ذاك.

لكن سياسة المصالح وما تفرضه استحقاقاتها الكبيرة لها منطقها الخاص، فهي كفيلة في تقريب الاطراف الى الحلول الوسطى وتبادل المصالح كما كانت كفيلة ايضا في تضارب الرؤى والاستراتيجيات رغم ما يطفو على السطح من التناطح الاعلامي والرسائل المفخخة.

الملف الافغاني


الملف الامريكي في السفارة السويسرية بطهران لم يكن كافيا لمصالح الطرفين بعيد احداث ايلول ( 2001 ) بل كان ولابد ان يكون هناك وسيط اكثر ثقلا وثقة بالنسبة للبيت الابيض وكان الترشيح من نصيب جاكستروا وزير الخارجية البريطانية آنذاك، فانه زار ايران ولاول مرة بعد اكثر من عشرين عام مرتين في مدة لم تتخط الشهرين فتقاربت المواقف وصفت الاجواء بين الثلاثة والهدف هو الاطاحة بطالبان وجماعات القاعدة حين جاءت اللحظة المناسبة التي ساهمت في توحيد الاهداف والانقضاض على فريسة سهلة طالما ارّقت الاطراف الثلاثة، وكان ما ارادوا فسارت الرياح بما تشتهيه ايران وبما تشتهيه من قبلها واشنطن ولندن، وما ساهم في ذلك التقارب هو ان ايران كانت تدعم اطرافا هي الاكثر اعتدالا في افغانستان حيث ان جبهة برهان الدين رباني تتمتع بالاعتدال الى حد كبير فلا قطع للرؤوس ولارجم للنساء، وهذا بالذات ما جعل الاوراق الامريكية الايرانية تشترك الى حد كبير كما شاءت المصالح في وديان افغانستان وجبالها الوعرة، فلا شيطان اصغر ولا شياطين كبار طالما التقت مصالح الطرفين.

وبقيت النوايا كما هي حتى بعد تشكيل الحكومة، فالاطراف الثلاثة يتجهون في مسار واحد كما شاءت المصحلة ان تجمعهم حول الملف الافغاني، ولعل زيارة السيد خاتمي لافغانستان ( فبراير 2002 ) كانت تأكيدا واضح جدا على ذلك الانسجام اذ ان خاتمي كان من اوائل الرؤساء في العالم الذين بادروا لزيارة افغانستان بعد سقوط طالبان.

الملف العراقي

لكن السياسة كما كانت كفيلة في تقريب الاهداف في الملف الافغاني فهي ذاتها كانت كفيلة في تباعد الرؤى والاستراتيجيات على اصعدة اخرى من اهمها الملف العراقي، حيث ان تلك المنطقة اصبحت خطوطا حمراء تستدعي استنفار كلا الطرفين، ومع ان الجانب الايراني يدعم بعض الاطراف العراقية التي تفضل الخيارات السلمية واتخذت خيار الدخول في اللعبة السياسية والانخراط في الحكم الا ان ايران ايضا لا تفضل ان تضع اوراقها في سلة واحدة، بل تفضل ان تدعم الاطراف الداعية الى الخيار السلمي مع الطرف الامريكي وتبحث عن دعم اطراف اخرى تعزف على وتر السلاح، والاسباب التي تدفع ايران الى انتخاب ذلك الخيار كثيرة جدا لعل اهمها لافتات محور الشر التي تؤرق الحكومة الايرانية والتي بين فترة واخرى تلوح فيها الادارة الامريكية... فايران تحاول اللعب على تناقضات الوضع السياسي في العراق ولعلها تماطل الادارة الامريكية على الاراضي العراقية من اجل كسب الوقت حتى يكتمل مفاعل بوشهر الذي يعول عليه الايرانيون كثيرا في توازن القوى على الصعيد العسكري اقليميا ودوليا، وفي نفس الوقت فايران تحاول ان تبدي للكثيرين بأنها بلد يدافع عن القضايا العادلة ولم يتخل عن شعاراته التليدة التي طالما استهوت افئدة الكثيرين.

تلك الاستراتيجية الايرانية اثارت حفيظة البيت الابيض، وهذا ما بعثر الخطوة المهمة التي قاربت بين البلدين في الملف الافغاني، لكن الايرانيين دائما يفضلون اللعب بطيف كبير من الاوراق وهذا ما يوفر فرصة كبيرة لنجاح المراوغة السياسية مع الاطراف الدولية حتى لو كان الخصم امريكيا، فهي تحاول وبكل ما اوتيت من قوة، ان تبعث رسالة الى الطرف الامريكي مفادها بان العراق لن يكون مختلفا كثيرا عن الحالة الافغانية وكما احتفظت ايران في مصالحها في افغانستان يراودها الامل ايضا في حصة ليست قليلة في الكعكة العراقية الشهية جدا، ورهان الاطراف في ذلك باهض الثمن والنزالات لازالت مستمرة في حلبة عنوانها العراق.

الملف النووي الايراني

على مدار فترة طويلة في مقاييس المفاوضات يبدو أن الترويكا الأوربية والإيرانيين كلاهما بدئا مقتنعين بأن الحلول أصبحت مستنفذه.. وأن كل طرف لم يعد بجعبته مزيدا من التنازلات، فالإتحاد الأوروبي ومن وراءه الولايات المتحدة الأمريكية وضعوا أمام إيران جميع الحلول السلمية مقابل أن تتراجع إيران عن تدشين مفاعلها النووي الذي اصبح مطلبا استراتيجيا للإيرانيين، كما أن الحكومة الايرانية سعت منذ فترة طويلة لأن تطرح فكرة التكنلوجيا النووية في الشارع الإيراني بحيث اصبحت هذه الفكرة مطلبا جماهيريا ليس من السهولة بمكان لأي حكومة إيرانية أن تتراجع عنه، وفي نفس الوقت فان إيران هي الاخرى قد أبرزت جميع ما بجعبتها من إقتراحات وحلول قابلة للتفاوض، وإن جميع ما تبقّى هو هوامش مناورة تتعلق بطبيعة الهواجس والمخاوف التي تحدث فيما لو أغلقت المباحثات، وهذا بالضبط ما يجعل الطرفين متمسكين حتى هذه اللحظه بخيوط متآكلة على طاولة المفاوضات، حتى لو كانت مفاوضات فقط من اجل المفاوضات.
بمعنى أن المفاوضات تختزل غاياتها الحالية في مجرد الإستمرار بالتفاوض فهذا أصبح مطلب الطرفين مع الإحتفاظ لكل طرف بالخيارات الأخرى، فأيران من جانبها تراهن على الوقت وقد تلوح بسلاح النفط أو تبعثر الأوراق الأمريكية في الشرق الأوسط، وفي المقابل فأن القوى الكبرى التي ترفض التوجه النووي الإيراني تبحث عن وقت مناسب تكون منطقة الشرق الأوسط قد تنعمت ببرهة من الهدوء من اجل تصعيد الموقف، والا فان المنطقة الآن عبارة عن برميل للبارود قد ينفجر في أية لحظة، بحيث اصبح لا يتحمل مزيدا من التصعيد، وذلك لان الملف النووي الإيراني يقف الى جانب ثلاث ملفات رئيسية مهمة في المنطقة هي الأخرى قد تنفجر في أية لحظة وهي:
الملف العراقي.. الملف اللبناني السوري، إضافة الى الملف الفلسطيني، وهذا ما يجعل التعامل حذرا من قبل الجميع مع كل ملف.
إن قلق الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوروبي وكذلك إسرائيل جاء نتيجة لوجود مؤشرات كثيرة تشير الى أن بأمكان الجانب الإيراني خلال الفترة القادمة أن يقترب كثيرا من الوصول الى تكنلوجيا نووية تقف على مسافة قريبة من صناعة الاسلحة النووية وهذا ما يعطي فرصة محدودة للجهود الدبلوماسية بحيث يكون عامل الوقت عاملا حاسما في أشواط المباحثات بين الطرفين، بمعنى أن هناك أطراف إقليمية لا تسمح على الإطلاق بوصول إيران الى تلك المرحلة من التقدم على الصعيد النووي، ولهذا تنظر بحذر شديد الى جولات المباحثات بين الترويكا الأوروبية وبين إيران.. وتفكر بأستخدام خيارات بديلة ليس مستبعدا فيها الخيار العسكري الذي يستهدف تدمير المنشئات النووية حتى وان كانت موزعة في نقاط جغرافية متباعدة داخل العمق الايراني.
وما قد يرجح ذلك السيناريو معرفة الجميع بأن مبادرة الحصار الإقتصادي لا تجبر إيران على التراجع لأن ايران دولة مصنعة وفيها موارد كثيرة ولها تعاملات إقتصادية ضخمة مع منافسين للجانب الأمريكي.. كما أن هناك قانون (داماتو) الذي صدر في عام 1994 والذي ثبت فشله بشكل كبير، اضف الى ذلك بأن لدى إيران خبرة مكتسبة في التعامل مع العقوبات الإقتصادية منذ الثمانينات وحاولت أن تكيف نفسها بشكل متوازن.

ختاما لابد من القول: ان قرابة العقود الثلاثة الماضية وسمت العلاقات الايرانية الامريكية بسمة التشنج والتصعيد وان السنوات القادمة تقود العلاقات بين الطرفين الى نفق مظلم.

جمال الخرسان
كاتب عراقي
[email protected]