على الرغم من أن نتائج أنتخابات الروسية عمليا قد حسمت منذ أن تقدم حزب روسيا الموحدة الذى يمثل الأغلبية البرلمانية بترشيح نائب رئيس الحكومة ديمترى مدفيدف لمنصب الرئاسة،فى اعقاب ذلك اعلن الرئيس بوتين الذى يتمتع بشعبية كبيرة تأييده لأنتخاب مدفيدف لمنصب الرئاسة،وبل وعن استعداده لتولى منصب رئاسة الحكومة عقب أنتخاب مدفيدف رئيسا للبلاد.


لقد حسمت هذه التطورات نتائج أنتخابات الرئاسة منذ اكتوبر الماضى،إلا انها لم تحسم بعد تركيبة السلطة واسلوب تطبيق مبدأ تداول السلطة،ومازالت المرحلة القادمة غامضة تثير العديد من التساؤلات التى لن تجد اجابات قبل أن يتولى مدفيدف رئاسة البلاد.
ومما لاشك فيه أن حديث البعض عن وجود منافسة فى معركة أنتخابات الرئاسة أمر غير واقعى،ويعبر عن عدم معرفة بحجم الثقة التى يتمتع بها بوتين من قبل الناخبين الروس،بل ويتجاهل النفوذ السياسى للكرملين وحزب الأغلبية (روسيا الموحدة).


ويتصرف مرشح السلطة لتولى الرئاسة، مدفيدف على اساس الدعم الجماهيرى الغير محدود لبوتين ولحزب الأغلبية،فهو لم يشارك فى المناظرات العلنية التى تجرى بين المرشحين لمنصب الرئاسة لأن برنامجه ليس مجهولا أوغريبا على الناخب الروسى،وانما هو واقع حى يلمسه المواطن يوميا على مدار ثمانى سنوات،خلافا لبقية المرشحين الذين لم يشاركوا فى أدارة شؤون البلاد وصناعة قرار السلطة،ما يستوجب أن يقوموا بتعريف المواطن ببرامجهم.


واذا اردنا أن نكون أكثر تحديدا،فلابد أن نشير إلى أن فريق بوتين الذى يقدم اليوم مدفيدف لتولى منصب الرئاسة،قد تمكن بالفعل من انقاذ روسيا من أخطر الازمات والكوارث التى تعرضت لها فى نهاية القرن الماضى،والتى تمثلت فى هيمنة رؤوس الأموال الأجنبية على مصادر الثروة الروسية وتقسيم البلاد إلى كيانات ودويلات صغيرة يسهل السيطرة عليها،على غرار ما حدث ويحدث فى البلقان،وسلبها أغلبية أقاليمها لتتحول لدويلة صغيرة تحتاج للدعم الخارجى.


لقد تمكن بوتين من مركزة السلطة فى روسيا عبر معارك سياسية داخلية وخارجية،بدأت بأنهاء سلطة حكام الأقاليم ونفوذهم السياسى،التى كادت أن تؤدى لأنهيار السلطة مركزية فى موسكو خلال نهاية التسعينيات، عندما اصبح من حق كل حاكم عقد اتفاقات سياسية وأقتصادية من دول أو أطراف خارجية دون العودة للمركز الفيدرالى فى موسكو،وارتبطت العديد من الأقاليم اقتصاديا بالغرب بشكل كبير،ما كان ينبئ بأمكانية سحبها من السيادة الروسية.هذا بالأضافة لتوغل رؤوس الأموال الأمريكية والأوروبية فى السوق الروسية وسيطرتها على أغلبية مصادر الثروة، بدء من شركة(يوكوس)مرورا بشركتى(BP-THK) و(سلاف نفط)،والتى دخلت من خلالها رؤوس الأموال الغربية للسيطرة على ثروات روسيا.
كما نجح حكم بوتين من القضاء على حالة الفوضى والبلطجة التى نشأت خلال عهد بوريس يلتسين،والتى استهدف مثيروها من نهب البلاد عبر القوة أحيانا والرشوة أحيانا والأنحراف بعمليات الخصخصة لحسابهم.


بعبارة أخرى نجح سادة الكرملين بقيادة بوتين فى تصحيح مسيرة الأنتقال لعلاقات السوق ونظام الأقتصاد الحر بما يخدم مصالح الراسمال الروسى من خلال صراعات ضارية مازالت مستمرة ضد رؤوس الأموال الغربية التى دخلت إلى روسيا.وهنا يكمن الفرق بين ما هو وطنى وما هو مرتبط وتابع للراسمال الأحتكارى الغربى.


ولكن هذا لا يعنى مثالية سياسات الكرملين وأنحيازه للمواطن،كما انه لايعنى ايضا أنه يتعاطى مع مصالح الذين تتنامى معاناتهم من عدوانية الراسمال الغربى.فقد واجه الكرملين مشاكل داخلية لم يتمكن من حلها،ولم يسعى لذلك،واسباب فشله تعود إلى أن استراتيجيته كانت تستهدف تصحيح مسار الأنتقال للأقتصاد الحر،وحماية مصالح الرأسمال الروسى.


ومنذ 8 سنوات كان بوتين يحرص دائما على أن يؤكد للعالم،أن كافة الأجراءات التى يتخذها الكرملين سواء ضد بيريزوفسكى او خدركوفسكى، لاتستهدف تغيير أختيار روسيا لنظام الأقتصاد الحر،وكان صادقا فى ذلك،لأنه كان يستعيد ثروات البلاد من انياب الرأسمال الغربى،لحساب الرأسمال الروسى،وليس لأنقاذ المواطن الروسى من معاناته اليومية.ما عكس واقع غريبا،وهو أن القيادة السياسية الروسية تفوقت فى نضوجها وادراكها لأهمية حماية نظام الأقتصاد الحر من التبعية عن الراسماليين الروس.


ولذا تمثلت المشكلة الأولى فى أن الرأسمال الروسى كان ومازال طفلا يحبو،ليس لديه القدرات الأقتصادية والعلمية،ويفتقد لمعرفة اساليب ادارة المؤسسات الرأسمالية،ولعل تخلف الرأسمال الروسى عن رؤية النخبة السياسية وخططها كان من اهم الأسباب التى قادت إلى أن الدولة اضطرت لفرض سيطرتها على اهم المؤسسات الأقتصادية فى قطاع الطاقة والكهرباء.وقد لمسنا تخلف الرأسمال الروسى عن النخبة السياسية الحاكمة خلال حرب العراق،عندما كانت الخارجية الروسية تخوض معارك ضد الولايات المتحدة لتجنب حملة عسكرية أمريكية ضد العراق،انطلاقا من قناعتها بضرورة حماية مصالح الراسمال الروسى،وخلال هذا قامت شركة لوك اويل بأجراء اتصالات مع واشنطن تحاول اقناع الأمريكيين بتسوية قوامها منح الشركة المذكورة حصة فى استثمار حقول قرنة الغربية مقابل أن تضغط على الكرملين لكى يتجاوب مع الخطة الأمريكية.


ما أدى لسيطرة نفوذ الرأسمال الحكومى على السواق الروسية،وتراجع نفوذ الرأسمال الخاص.ولابد من القول ان اتساع مساحات روسيا واهمية البنية التحتية اللازمة لخدمة الأستثمارات والتى لايمكن أن تقوم بها الشركات الروسية، زاد من نفوذ الدولة.


اما المشكلة الثانية،فتكمن فى أن الكرملين كان يعمل على تصحيح مسار الأنتقال لعلاقات السوق،وحماية الثروات الوطنية من الهيمنة الأجنبية،ولم يستهدف تحسين اوضاع المواطنين.لذا كان من الطبيعى أن يعانى المجتمع الروسى من أزمات المجتمع الرأسمالى، وأن يزداد الفقراء فقر والأثرياء ثراء.
أن حزب روسيا الموحدة ليس حزبا اشتراكيا أو شيوعيا،انما هو حزب الحكومة،هو عمليا حزب الراسمال البيروقراطى،ما يعنى أن مساعيه لتحسين أوضاع المواطنين ترتبط بمصالحه،وهى بالضرورة تختلف عن اساليب الرأسمال الخاص الذى يزيد ارباحه على اساس تحسين أوضاع العاملين فى شركاته لكى يحصل على قوة عملهم بشكل كامل.


أن انتهاء الفوضى وسيادة الأنضباط،واستعادة هيبة روسيا،وصيانة وحدة اراضيها وسيادتها تعتبر العوامل الأساسية التى حصدت مساندة الناخب الروسى لسياسات بوتين.إلا أن المرحلة القادمة ستطرح على السلطة ضرورة التعامل مع الأزمات التى يعيشها المواطن،وايجاد سبل لتحسين مستوى معيشته،فى وقت تنذر التوقعات بتنامى الأزمات الأقتصادية فى روسيا وبشكل عام فى العالم.ما يلقى على عاتق مدفيدف اعباء ثقيلة، تثير تساؤلات حول قدرته على التصدى لها وحلها.

مازن عباس

موسكو