ابتداء أحب ان اشكر السادة الذين اسهموا بتطعيم مقالتي السابقة التي تناولت شيئا من تأريخنا المعاصر الذي تلمسناه بأيدينا وعانينا بأنفسنا من تبعاته يآماله وآلامه.. وأشباعا للموضوع نعود لبيان ما لزم بيانه مع السادة القراء المهتمين به.. ولكن قبل ذلك أحب أن اكرر ما ابتدأت به سابقا وهو لزوم التجرد وعدم الانحياز والحيادية والبحث الصرف عن الحقيقة لا غير عند الكتابة وابداء الرأي..ولا أخفي أن لي توجهاتي وميولي الشخصية التي احتفظ بها لنفسي فقد اكون متعاطف مع عبد الكريم قاسم وبالضد من عبد السلام عارف وقد لا أكون راضيا عن النظام الملكي ولكن عند دراسة هذه الانظمة بتجرد دون انحياز اّلا لمصلحة الوطن قد نصل الى نتائج اخرى قد لا تلائم هواي..الكثير من مصائبنا تأتي من الاحكام المسبقة وعدم السماح بنقد جهات أو افكار معينه وكأنها مقدسات وكل ما أتت به وفعلته وأنتحته هو عين الحق والصواب ومن ينقدها فكأنما هدم ركنا من اركان الكعبة!! لا تستقيم الحياة الطبيعية مع هكذا توجه لأنقطاع التواصل وسبل الحوار وبالتالي توقف عملية الاصلاح والتطور وفساد مفردات الحياة كما يلزم ان نعترف انه لا يوجد نظام مثالي كله ايجابيات ولا آخر كله سلبيات ومن هنا يأتي دور الفرد لأن يكون فاعلا في مجتمعه من أجل دعم الايجابيات ومحاربة السلبيات متى وأين وُجدتا.وأذا كان الله بعزّه وجلاله حاور ابليس شيطان الانس والجن وأبليس يرد على جلاله بتلك العنجهية والتمرد ومع ذلك يستجيب له الرب فيعطيه ما طلب وهو الانتظار الى يوم البعث فهل من معتبر؟؟


كان الناس يعزفون عن السياسة في العهد الملكي ولكن بمزاجهم وليس مكرهين مرعوبين كما في العهد البعثي ولم يعهد المواطن الطلعات البهية للحكام ليل نهار على شاشات التلفاز أو الاذاعة فانا لا أذكر من خطابات الملك أو الوصي ألاّ النز اليسير كما لا أذكر خطابا لنوري السعيد ألاّ مرّة أو مرتين ولو تحدّثوا فهو لمناسبة هامة تهم الوطن وليس خالي على بطال أو كنوع من أرعاب المواطن البسيط كما كان في العهد الصدامي أو للتسويق والدعاية كما كان على عهد الزعيم الاوحد !!


كانت أيام الزعيم حافلة بالنكات كيومنا هذا ومن طرائف العراقيين أيام الزعيم quot;كانوا جماعة في تشييع جنازة فهمس احدهم للذي بجانبه بان المتوفي سعيد ألآن لأنه خلص من أقوال الزعيم!!quot; ولعلم السادة القرّاء الشباب الذين فاتتهم تلك المرحلة أن الاعلام العراقي يومذاك كان يذيع بين كل فقرتين من برامج الاذاعةاو التلفزيون وهي عادة في تمجيد الزعيم الاوحد مقطعا من quot; اقوال الزعيم quot; بالصوت او بالصوت والصورة لدرجة ان الناس بدأت تشمأز من الاذاعة والتلفزيون.. مسألة الوطنية والخيانة والعمالة كلها حسب تقديري مسائل نسبية بشكل عام ولا أظن بل لم اسمع احدا يصف عبدالكريم قاسم او عبد السلام عارف او حتى صدام حسين بالعمالة بل كلهم اناس طائشون يحبون ذاتهم لدرجة الجنون بل لسحق الآخر أيا كان من أجل شخصه بل لمجرد الاعتراض على رأيه ولكن يلزم ان نعترف بأنهم لا يتحملون وحدهم أسباب وتبعات هذا النتاج المهين بحق شعب عريق وانما يتحمله الطرف الآخر فالراقصون على الحبال وهم كثيرون لدرجة التمويه بأنهم يمثلون غالبية الشعب - هم في الحقيقة وراء هذه الكوارث - ولغاية التاسع من نيسان 2003 من كان يصفق ويزعق بالحب والولاء وبالروح والدم نفديك يا قائد؟ أليس غالبيتهم من يتصدر للواجهة السياسية اليوم وينافس المعارضين الحقيقيين الذين عُذبوا وشُردوا ونٌهبت اموالهم وممتلكاتهم وسُحق العديد من افرادهم بآلة القمع الجماعي والعشوائي لا لشيء سوى عدم الرضوخ لأرادة القائد كما كان يريد!!


قد يكون العراقي ملحدا أو مسلما شيعيا كان ام سنيا اومسيحيا اويزيدا عربيا او كرديا اوتركمانيا كل هذا أمر طبيعي وأذا اردناه مجردا من مثل هكذا مواصفات فهذا يعني انه ملاك أو من خارج منظومة العراق.. أنا كمواطن عراقي لا يهمني من انتخبه نائبا او رئيسا او مسؤولا ان يكون ذا صبغة اوصفة مما ذكرنا بل الذي يهمني مهنيته واخلاصه لعموم الشعب والوطن وتهمني عدالته بشكل خاص وامكانياته ومؤهلاته وقدراته وأمانته لأن يكون كفوء لملىء ذلك الموقع والسبب ببساطة كما لخصهاغيري من ان ايمان الفرد وعبادته لله هي له وتخصه وحده بينه وبين ربه.. أما عدالته وحسن تصرفه وقدراته فهي لي وللمجتمع كله وهذا ما يهمني وأبني علاقتي معه على هذا الاساس!!


مصيبتنا اليوم هي وقوعنا فريسة تحت رحمة المتاجرين بالدين والمتسترين بستار المذهبية بعدما ذقنا الويلات في العقود السابقة من حبائل المتاجرين بالوطنية والقومية والعروبة وتحرير فلسطين من البحر الى النهرحتى كفر الناس بالوطنية وبالقومية وهجروا حتى أسم فلسطين!! نخشى ان يأتي يوم يبدو قريبا يكفر الناس بالدين وينفرون من كل من وضع العمامة يعرفونه او لا يعرفونه !! لقد تحمل الشعب العراقي أكثر مما يُتصور ولاشك ان احفادنا سيبكوننا عندما يقرأون تأريخنا وما حلّ بنا من خراب جراء ما جنته ايدينا من ظلم وجور بحق انفسنا قبل غيرنا وانعدام الرحمة من قلوبنا فندعوا ولا يُستجاب لنا وكأنما يقال لنا..ذوقوا مما جنته ايديكم!! ومن مفارقات عهد الديمقراطية عودة الالقاب التي ذهبت بذهاب العهد الملكي مثل فخامة رئيس الجمهورية ودولة رئيس الوزراء..ألخ مع أن مثل هذه الالقاب كانت تُحسب من مثالب النظام الملكي كما لا توجد دولة متحضرة اليوم تحترم الانسان تضفي على نفسها مثل هذه الالقاب!! في الوقت الذي تجري حشودنا التائهة وراء سراب بعض الدعوات الدينية التي تفرّخ كل يوم فروع لها وذيول الى ما لا نهاية والادهى ان من قادة هذه الحركات كالمتحدث بأسمها لم يلتقي زعيمها وليس بينهم أيّ تعارف أو حوار حتى لو من وراء حجاب !! في الوقت نفسه نواجه مهازل بعض قادتنا الجدد بعدما سحرهم الكرسي لم يعد يتقبلوا أي موقع آخر ممكن أن يخدم شعبه لو أراد.. فعلاوي يبذل المستحيل وبشتى الوسائل من أجل عودة ذلك الكرسي الساحر.. وبدلا من ان يعمل الجعفري على لم شمل المتفرقين من فرقائه ورفقائه نراه يسعى وبهمّة عالية لشق حزبه الذي كان يرأسه وتفريق جماعته التي اوصلته الى كرسي الرئاسة يوما وفشل في ادارتها حالما بحلاوة الرجوع اليه حتى ولو على انقاض حزبه ومستقبل جماعته..فأين الوطنية والامانه من كل هذا؟؟ من أهم آليات الديمقراطية المفقودة في العملية السياسية في عراق اليوم هي ديمقراطية الاحزاب نفسها.. فالاحزاب الحالية هي بين رئاسات عشائرية أوقومية وزعامات دينية ووجاهات طائفية أو مذهبية أومراكز قوى تملك المال والنفوذ وكلها تشترك كونها تجانب السياسة وخير دليل حين سُؤل بريمر عن أشهر شخصية في عراق اليوم أجاب بأنه يعمل ولائم عالية الجودة طيبة المذاق!! كل هذه الاحزاب تشكلت كقمم انحدرت متسلسلة نحو القواعد التي لا خيار ولا صوت لها بل كل ما مطلوب منها هو quot;نفذ ثم ناقش quot; على طريقة حزب البعث والحزب الشيوعي سابقا.. في رأيي المتواضع لا تسلم العملية السياسية في العراق اليوم ما لم تُبنى احزاب وطنية تبدأ من القواعد وتتصاعد نحو القمة حسب الاهلية والكفاءة اسوة بأحزاب العالم المتحضر لتكتسح كافة الهياكل الحالية التي تُسمى احزاب لأنتهاء صلاحيتها.


هنالك امور ومواقف عديدة يلزم تناولها ازاء حكومتنا الحالية ونظامنا الجديد ولكن ما يلح عليه ولا يحتمل التأخير أكثر مما هو عليه هو معضلة اهلنا اللاجئين داخل وخارج العراق الذين طال انتظارهم وهم بعيدون عن اوطانهم ومساكنهم.. كيف تغمض لمسؤول عين داخل فراشه الوثير وينعم بالدفىء شتاء وبالتكييف صيفا وهو يعلم ان من اهلنا من يفترش الارض ويلتحف السماء وليس لديه ما يقيه برد الشتاء ولا يحميه من حرارة الصيف بل تركتهم حكومتهم تحت رحمة صدقات الاغراب واستغلالهم وجشعهم !! كيف لأب أو رب أسرة أو مسؤول أن يهدأ له بال وهو يعلم ان من اهله من لا عهد له برغيف يسد به رمقه او مريض ينهش بدنه المرض ولا علاج اوطفل محروم من رضعة او مقعد في مدرسة كأي طفل في العالم فهل نسوا مسؤولينا اليوم ما عانوه بالامس من تشرد وضياع..
وهنا لابدّ من تذكّر عبد الكريم قاسم حين شاهد صرائف خلف السدّة عام 59 فأمر بأنشاء مدينة الثورة لأنقاذ أهله ومواطنيه من ذلك الضياع والحرمان.. فذكّر أن نفعت الذكرى.

حكمت النعمة